إيهاب الملاح (القاهرة)
لا يمكن قراءة التحولات المصيرية في تاريخ الأمم والشعوب، القديمة منها والمعاصرة، إلا إذا رددنا ما يبدو مشتتاً من وقائع وشخوص وظواهر تتناحر على السطح إلى جذورها العميقة في لب الثقافة والمجتمع، وكشف التفاعلات الحيوية البطيئة التي محورها «الإنسان»؛ نواة كل تقدم أو تطور أو تحول مهما كان، وعلى أي مدى قريب أو متوسط أو بعيد تماماً لمئات السنين.
هكذا نحاول أن نتعرف على الفترة المعروفة في التاريخ الأوروبي بعصر العقل أو عصر الأنوار، والتي قد تبدو للبعض للوهلة الأولى، أنها انبثقت فجأة من دون مقدمات؛ لكن الدرس التاريخي التحليلي المعاصر لا يقر مثل هذه النظرات الجزئية الانقطاعية؛ أبداً، من هنا تأتي الأهمية الكبرى لهذا الكتاب المرجعي الضخم؛ «السعي نحو المجد ـ تاريخ أوروبا من 1654 إلى 1865»، من إصدارات المركز القومي للترجمة في مصر 2019؛ لمؤلفه تيم بلاننج أستاذ التاريخ والعلوم السياسية بجامعة كمبريدج؛ ومن ترجمة المؤرخ والأكاديمي القدير الدكتور قاسم عبده قاسم؛ صاحب الأعمال المرجعية في التأليف التاريخي والترجمات الباذخة.
الكتاب المرجع الذي يقع جزؤه الأول في 500 صفحة من القطع المتوسط، هو في الحقيقة موسوعة زاخرة عن الثقافة الأوروبية قاطبة، وليس عن التاريخ الأوروبي «السياسي الاجتماعي»، كما هو شائع في مثل هذا الحقل من الدراسة التاريخية.
نحن بإزاء دراسة شاملة، تحلل وتفصل القول في موضوعات، قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن دائرة الكتابات التاريخية المعتادة أو المألوفة، فما الذي يمكن أن ينتظره قارئ من معرفة تاريخ الأوبئة والأمراض والطواعين التي ضربت أوروبا في المدى الزمني الذي حددته الدراسة؟ وهل يبدو أن دراسة السلوك الاجتماعي والجنسي للطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة للسكان الأوروبيين، يمكن أن يقدم معرفة مفيدة من أي نوع؟!
نعم، بكثيرٍ من الثقة تأتي الإجابة عن الأسئلة السابقة إيجاباً بحماس كبير، لقد شهدت الفترة التاريخية التي حدد الكتاب مداها الزمني من سنة 1648 وحتى 1815 الكثيرَ من الأحداث والتحولات البارزة ليس فقط في التاريخ الأوروبي، بل في تاريخ العالم كله، لقد شهدت هذه الفترة درجات غير مسبوقة من تنامي «العقلانية» و«العلمانية» في أوروبا، وحُسمت صراعات عنيفة بين بقايا تصورات العصور الوسطى الدينية، وبين اكتشافات العلوم الطبيعية المذهلة، وانفجار المعارف الإنسانية والاجتماعية في الفلسفة والتاريخ والسياسة والاجتماع.. إلخ.
خلال هذه الفترة، نشر كتاب «المبادئ» لنيوتن، وكتاب لوك عن «الفهم الإنساني»، وكتاب هيوم عن «الطبيعة البشرية»، وكتاب مونتسيكيو عن «روح الشرائع «القوانين»»، وظهرت طائفة الموسوعيين «ديدرو، وألمبرت، وجان جاك روسو، وفولتير.. إلخ»، وتركوا موسوعتهم الباذخة.
هذه فقط، مجرد عينة من نصوص الإنتاج الفكري والثقافي، الذي قضى بحسم على الرؤية المركزية التقليدية للعالم، وفي القلب منه الإنسان، وكانت ذلك النشاط أيضاً جزءاً لا يتجزأ من تلك الحركة «الإنسانية» الهائلة التي اندلعت في أنحاء متفرقة من القارة العجوز؛ في إيطاليا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا.. إلخ، وأدت في النهاية إلى ظهور ما عرف بعصر التنوير أو عصر العقل أو الأنوار.
«السعي وراء المجد»؛ كتاب ثري وممتع، استحضر فيه مؤلفه واحدة من أكثر الفترات الاستثنائية في التاريخ الأوروبي الحديث؛ بداية من وضع القارة الأوروبية الممزقة والمعزولة بعد حرب الثلاثين عاماً، إلى فترة اندلاع الثورة الفرنسية 1789 وحتى حروب نابليون بونابرت في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
رحلة طويلة لكنها ممتعة، سيقابل فيها القارئ شخصيات تاريخية، تركت أثراً عميقاً على التاريخ الأوروبي بل العالمي، وستتردد أسماء لويس الرابع عشر، وفردريك الكبير، ونابليون بونابرت، وغيرهم، لكن ليس باعتبارهم ملوكاً وأباطرة وقادة عسكريين، بل أيضاً باعتبارهم ذوات تاريخية فاعلة في مسار حركة التاريخ الأوروبي الحديث.