الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الخيال الشعري يواجه أسلحة الوباء الخفيّة

الخيال الشعري يواجه أسلحة الوباء الخفيّة
20 أغسطس 2020 00:21

مع انتشار جائحة كورونا عاد النقّاد إلى أمّهات الأدب العالميّ المخصّص للآفات الطبيعيّة والأوبئة، ما نسمّيه«أدب الجوائح». هكذا رجعوا إلى الملاحم والروايات والقصص التي تصف آثار الطاعون والتيفوس والكوليرا والحمّى الإسبانية وسواها على حياة الأفراد والجماعات. بدأوا يعيدون قراءة هوميروس الذي يصف في ««الإلياذة» كيف جاء الطاعون ليحرم الآخيّين من ثمار تسع سنوات من القتال، و«أوديب ملكاً» لسوفوكلس، ومذكّرات دانيال دوفو صاحب رواية «روبنسون كروزو»، التي يصف فيها، أياً في المذكّرات، الطاعون الذي اجتاح منطقة البروفانس الفرنسية في 1720 ويستعيد في الأوان ذاته من خلال الأرشيفات وكتب التاريخ سنوات الطاعون الذي اجتاح لندن في 1665، ورواية «الطاعون» لألبير كامو، وسيناريو «التيفوس» لجان بول سارتر، وروايات أخرى معنيّة بهذا الموضوع وشهيرة لجاك لندن وميري شيلي وجان جيونو وسولينستين وماركيز وداني لافاريير وآخرين.

وأغلب هذه الأعمال يقدّم معالجة سرديّة وفلسفيّة ومأساويّة لحيرة الإنسان وتخبّطه إزاء وباء غير معلوم الهويّة ولا مشخّص السلوك. وفي هذه الفئة تندرج قصائد عباس بيضون الجديدة التي نشر عدداً منها في الصفحات الثقافية، مانحاً بعضها عنوان «قصائد الحجْر»، وبعضها الآخر عنوان «قارب المجذومين»، وستشكّل هي وقصائد أخرى غير منشورة بعدُ مادّة مجموعة شعرية قادمة تلطّفَ الشاعرُ بإطلاعنا عليها، ونخصّها بهذه القراءة.
ينبغي التذكير بادئ ذي بدء بأنّ عباس بيضون كان في كلّ ما كتبه يصدر عن حسّ تراجيديّ رفيع. فمن قصيدة «صور» إلى مجموعاته الشعريّة «الوقت بجرعات كبيرة» فـ«نقد الألم» فـ«لُفِظَ في البرد»، و«عين السكلوب» ومراثيه لشقيقته نجلا وللصديق الشاعر بسّام حجار، وأعمال أخرى، دائماً ما نكون إزاء معاينة أليمة وصاحية للموت والآفاق المعطّلة وجوديّاً أو تاريخيّاً، دون أن يصنع هذا من عباس شاعر يأس أو انغلاق. فالأمل والحبّ يسكنان هما أيضاً عمل هذا الشاعر، ولو عبر الخيبة، وقراءة الألم النافذة تشكّل هي نفسها، بفعل مفارقة جوهرية لصيقة بالإبداع الفنّي، توسيعاً لمساحة الضوء في وجود الإنسان. هو إذن شاعر تراجيديّ عميق النبرة، جاءت الجائحة الجديدة لتمدّه بإمكانٍ آخَر راح يستغلّه إلى أقصاه لتقديم قراءة شعرية معمّقة لحصار ضارب تواجهه هذه المرّة لا كينونة فردية معذّبة ولا مدينة مهدّدة ولا بلد ممزّق، بل البشرية بكاملها.

التباعد الجوّانيّ 
تشكّل فاتحة «قصائد الحجْر» امتداداً للعوالم الشعريّة السابقة لعبّاس بيضون: «منفيّ إلى غرفتي/‏‏ أجرّ أنا كسيحة/‏‏ من أمام التلفزيون/‏‏ أسحبها إلى السرير/‏‏ حيث يبدأ عذابها مع الوقت/‏‏ الذي يتقلّب معها». ثمّ سرعان ما يزجّنا الشاعر في خصوصيّة الجائحة الجديدة وطقوسها المريعة، يجمع فيها الكائنات والأشياء في الامتحان الممض ذاته:
«نهار واحد يقفز من تحت النافذة/‏‏ يرتمي على المنضدة/‏‏ التي ماتت أمس/‏‏ حيث هناك موتى آخرون/‏‏ على المنصّات، كانوا أمس كتباً/‏‏ كانوا قناني انتحرت، حينَ/‏‏ الحياة توقّفت وسطها/‏‏ كانوا أيضاً قامتي التي منحتُها للشتاء/‏‏ وشبحي الذي لم ينهض من السرير...»
العلاقة بالفضاء نفسها صارت مغرَّبة، مسّها ما نسمّيه بلغة الواقع «التباعد الاجتماعيّ» أو «الحجْر»، وأحالها إلى تباعد جوّانيّ يشطر الذات إلى خلايا أو أشباه كائنات متناحرة يجمعها الأفق المأزوم ذاته، وتتناهبها صيرورة شبحيّة: «لقد جاء الوقت/‏‏ علينا أن نستعدّ لمغادرة أشباحنا/‏‏ التي لا نستطيع أن نخرج منها/‏‏ من دون أن نقص مجالاً لأنفسنا/‏‏ في داخلها».
وما يقوله روائيّو الجوائح في فصول ممتدّة يقدر عبّاس بيضون، بما للشّعر من قوّة اقتضاب وإلماح شرريّ، أن يكثفه في بضعة أبيات. هكذا يصف التكرار الفارغ أو الاجتراريّ الذي تفرضه الجائحة على وجود يوميّ بأكمله: «لقد رمونا للآخرين/‏‏ وتكوّم علينا أشباهنا/‏‏ المعتقلون في أجسادهم/‏‏ إننا نتكرّر على طول هذا اليوم/‏‏ وأحياناً، أحياناً فقط/‏‏ نحصل على عطلة/‏‏ أمام التلفزيون». 

  • عباس بيضون
    عباس بيضون

اكسسوارات الجائحة
وهنا أيضاً يبرع عبّاس بيضون في استعارة لغة الأشياء، ما يمكن أن نسمّيه «إكسسوارات الجائحة»، ويمدّها بقوّة رمزية تزيد من ثقلها الواقعيّ بدل تغريبها: «أحياناً نحمل هذه الحياة المعارة
إلى المطبخ حيث نقليها/‏‏ ونرمي قشورها/‏‏ ولا نعرف كيف تنقلب في الطبق/‏‏ إلى كمامة تنظر إلينا/‏‏ لا نعرف ما الذي وراءها».
يتمثّل المريع هنا في انفصال الجسد عن نفسه، أو عن الوعي الذي يشكل هو غلافه أو مأواه: «أقلّب وجهي على الوسادة/‏‏ أترك جسدي عائماً فوق سريري/‏‏ لقد افترقنا كصديقين/‏‏ لكن لا أريده لهذه الليلة/‏‏ ولن أتزوّجه لعام إضافيّ». هكذا تفرض نفسها مراجعة أليمة لماض لم يعد، وقد ابتلعته آلة الاجترار الكبيرة، يتمتّع بجدارة الأمس، لم يعد حتّى زمناً، ولسنواتٍ  «عجزت عن أن تكون ماضياً».
وفي ضرب من المواءمة العميقة والمفاجئة بين لغة الطّبابة وتصويريّة الشعر (ونتذكّر التناولات «العياديّة» النافذة التي وضعها الفيلسوف جيل دولوز لبعض النصوص الأدبية الكبرى)، يرينا الشاعر جوهر هذه المأساة المجهولة المصادر: أنّ الحياة، من فرط ما صارت معقّمة أو مطهّرة على سبيل الوقاية، استحالت إلى عيش عقيم وعمل جادّ ومواظِب على تقزيم النّفوس: «فمن ثقٍب في الفضاء/‏‏ تنقط فوق البلاط/‏‏ رغبات مطرودة/‏‏ مشاعر جرى تعقيمها/‏‏ تنزّ أيضاً نفوس صغيرة/‏‏ منظّفة/‏‏ وجائعة كالبكتيريات». وكذلك: «حيث الأرواح الخارجة من المعامل/‏‏ تصل في إقفالها/‏‏ معقّمة ونظيفة أيضاً/‏‏ حيث المناديات يقفن أمام الحجرات/‏‏ يستدعين أجساداً ضالة إلى أوكارهن/‏‏ ويسلمن كلاً منها قدره الصغير/‏‏ معقّماً ونافذاً/‏‏ كالصلاة».
وكما في بعض أكبر نصوص الجوائح، نحن هنا أمام حرب خفيّة، يمارسها على البشر قاطبةً عدوّ غير مرئيّ أو ممتنع على التشخيص. سوى أنّها في حالة عبّاس بيضون تذكّر بحرب فعليّة، قريبة العهد وما برحنا نعيش في ظلّها البغيض ونتذكّر معها سنوات إقامة الناس في الملاجئ: «إلى أين يخرج هذا الشبح/‏‏ من أعيننا/‏‏ إننا نسمع خطواته حولنا/‏‏ ونحن نرتجف في الملاجئ/‏‏ حيث انزوينا/‏‏ إنه يمشي عنّا/‏‏ إلى حيث تصل أفكارنا».

أدب الرّعب
وحتّى يُحسن وصف هذه الصيرورة المتفلّتة للجرثومة أو الفيروس، يستعين الشاعر تارةً بأدب الرّعب: «وفي فراغ سحيق/‏‏ قبلة الفيروس التي تنشب في عنق مكشوف»، وطوراً بالتاريخ، فيستحضر «قارب المجذومين»، أو يلجأ إلى صناعة «الأليغوريا» أو الأمثولة الشعرية، في جملة صوَر ولوحات رامزة تساعد في القبض على ما يستمدّ كلّ قوّته من امتناعه على القبض: «بقليل من الدم/‏‏ يمكنه أن يعيش/‏‏ بقليل من الهواء/‏‏ يستطيع الطيران/‏‏ ومن يد إلى يد/‏‏ ينتقل الفيروس/‏‏ أو ينتظر في الطبق/‏‏ يختبئ تحت كلمة/‏‏ أو تحت رقم/‏‏ عن يمين الدولار». 
مراراً يبرز أثر الجائحة عبر هوس الأرقام: «أغسل يدي حتى الثلاثين/‏‏ وأفرك رأسي عشرين مرة/‏‏ هكذا أكون آمناً في الحمام والمطبخ والشرفة/‏‏ تكون مواعيدي وانتظاراتي آمنة/‏‏.../‏‏ هناك من يعدّ عنا/‏‏ من يسلّمنا أعمارنا بالعدد/‏‏ إننا نسوس هكذا الأشياء/‏‏ ونتركها تحت السيطرة/‏‏ لكننا، مع ذلك، نبقى تحت رقابة الواحد/‏‏ وتحت رحمته/‏‏ في البدء كان العدد». أرقام تُختزَل أيضاً، ولمزيد من الرّعب، إلى صفْر هائل يتحكّم بالفضاء: «من يفكّرُ الآن أنّ الصّفر/‏‏ هو من فوقنا الظلّ/‏‏ هو من فوقنا الشّمس المكسورة/‏‏ التي تنشرُ نهاراً متراجعاً/‏‏ هكذا نحيا بالعكس/‏‏ وعلينا أن نكون/‏‏ بقدرٍ من القبول/‏‏ أضداد أنفسنا». 

الغلوّ التصويريّ  والسخرية السّوداء 
يحيل هذا الهوس بالعدد إلى رقم مجهول، كما في لعبة النرد، لا الرقم الرّابح الذي يحرّك مخيّلة اللّاعب ويرسم له سراباً من الأمل، بل الرقم المخشيّ الذي يحيا الكائن سحابة يومه في خوف انبثاقه: «أعدّ خطواتي بخوف/‏‏ لكن أتابع العدّ/‏‏ لا أعرفُ متى يحصلُ الرقم المشؤوم/‏‏ الذي أفوّته دائماً/‏‏ لكن أعرفُ أنّه قد يوجدُ بالخطأ/‏‏ في فسحةٍ فارغة». وهو أيضاً ثقب هائل ذو سجايا جنائزيّة: «هناك ذلك الثقبُ/‏‏ الذي ابتلع ما تبقّى/‏‏ جميع الذين تواروا/‏‏ أكاذيب تعبت وهي تنتظر أوان خروجها».
هكذا يمارس عباس بيضون حيلاً فنية شديدة البراعة والتعدّد والابتكار، من الغلوّ التصويريّ إلى السخرية السّوداء فالأليغوريا أو الأمثولة الفعّالة، ليصف عدوّاً غائباً حاضراً، معلوماً مجهولاً، مرئيّ الآثار ومتعذّراً على الإمساك، وكذلك تهديداً خفيّاً ومهولاً مسلَّطاً على الجميع، ويكاد يشكّل الموضوع الأكبر، المتماسك بروعة والمتجدّد المعالجة دون انقطاع، نقول الموضوع الأكبر لإبداعه الشعريّ والأدبيّ كلّه.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©