الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

قيوم الحروف

قيوم الحروف
30 يوليو 2020 01:11

يفشي التراث الصوفي بروحية حرف الألف ونورانيته وتميزه عن بقية الحروف، ويتأكد ذلك من خلال الاحتفاء الكبير الذي خص به المتصوفة هذا الحرف، ومنهم، ابن عربي، والحلاج، وعبد الكريم الجيلي، والبسطامي والنفري والقشيري، وغيرهم كثير.
 الحرف عند المتصوفة ليس شكلاً تجريدياً يخطه القلم فقط، أو دالاً ومدلولاً، وإنما هو سر، وصورة توحي بما وراءها، لأن شكل الحرف له باطن، ويحجب خلفه سراً دفيناً مثقلاً بالمعاني، وخص له ابن عربي الباب الثاني من الفصل الأول من «الفتوحات» تحت عنوان «في معرفة مراتب الحروف والحركات من العالم، وما لها من الأسماء الحسنى، ومعرفة الكلمات التي توهم التشبيه، ومعرفة العلم والعالم والمعلوم». ومما قاله عن الحرف: «اعلم أن الحروف سر من أسرار الله، ومن أشرف العلوم المخزونة عند الله تعالى، وهو من العلم المكنون المخصوص له أهل القلوب الطاهرة».

والنفري أيضاً اعتبر الحرف سراً من الأسرار بقوله: «الحرف يعجز عن أن يخبر عن نفسه، فكيف يخبر عني». 
 وبما أن المتصوفة يهتمون بالباطن على حساب الظاهر، فقد امتلك الحرف عندهم ثراء روحياً وجمالياً، فحسب النفري فإن:
«الحروف خزانة الله، فمن دخلها فقد حمل أمانته»، لكن الحرف الذي احتفى به المتصوفة هو الألف، وأصل الألف هي النقطة وسره مكنون فيها.

النقطة هي الأصل:
يعيد المتصوفة أصل الخط إلى النقطة وهي أساس بنائه، وهي سر الأسرار، والفيض الإلهي الذي انبجس منه الكون، وقد حظيت باهتمامهم، وقد اعتبر الحلاج أن: «علم الألف في النقطة، وعلم النقطة في المعرفة الأصلية في الأزل، وعلم الأزل في المشيئة، وعلم المشيئة في غيب الهو، وغيب الهو «ليس كمثله شيء».
وبذلك تعتبر النقطة عند المتصوفة أول الحروف النورانية، وتحيل على معنى الوحدة، والمركز، وهي التي تشكل الألف حسب الشيخ محمد أسعد الخالدي: «الألف هو النقطة الواحدة الممدة في كل مكون، ولهذا كانت أول الحروف النورانية، لا يكون معها شيء، وهي معنى الوحدة القائم في رتبة الواحد حقاً» فالنقطة تحيل على الألف، وهي أصل الحروف والكون معا، ويقول ابن عربي في هذا الصدد: «أصل الأشكال الخط، كما أن أصل الخط النقطة، والخط هو الألف، فالحروف منه تتركب، وإليه تنحل فهو أصلها».
وللحلاج أيضاً نفس الرأي، ويؤكد ذلك الشيخ أبراهيم بن عمران النيلي حيث قال: «سمعت الحلاج يقول: النقطة أصل الخط، والخط كله نقط مجتمعة، فلا غنى للخط عن النقطة ولا للنقطة عن الخط، وكل خط مستقيم أو منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها، وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليل على تجلي الحق من كل ما يُشاهد وترائيه عن كل ما يُعايَن».

الألف قيوم الحروف:
احتفى المتصوفة بحرف الألف، ورفعوا مكانته بين الحروف واعتبروه قيومها، وحجتهم في ذلك، أن حرف الألف يقترن بالأحدية أي فردانية الله ووحدانيته، وسرّ الألوهية مضمر فيه، لذلك يؤكد ابن عربي: «أن الحق أشهده قائلاً، الحروف موسى والألف العصا» وقد اعتبره (قيوم الحروف)، وألف كتاباً حول الألف نظراً لقداسته.
ويجمع المتصوفة بأن الحروف اشتقت من الألف، وهو المتبوع لا التابع، وبذلك يكون مقام الألف حسب ابن عربي:« مقام الجمع، وله من الأسماء اسم الله، وله من الصفات: القيومية.... وله من المراتب كلها... وله مجموع عالم الحروف ومراتبها... وهو يسري في مخارج الحروف كلها سريانَ الواحد في مراتب الأعداد.... وهو قيوم الحروف... فكل شيء يتعلق به ولا يتعلق هو بشيء، فأشبه الواحد لا يتقيد بمرتبة دون غيرها.... كذلك الألف لا يتقيد بمرتبة ويخفي اسمه في جميع المراتب، فيكون الاسم هناك للباء والجيم والحاء وجميع الحروف، والمعنى: الألف 
ويؤكد الشيخ عبد الكريم الجيلي سريان الألف في جميع الحروف بقوله: «سار الألف بنفسه في جميع الأحرف، حتى إن ما ثم حرف إلا وهو موجود به لفظاً وكتابةً، فالباء منه ألف مبسوطة، والجيم ألف معوجة الطرفين وكذلك البواقي، والحرف إذا بسطته وجدت الألف من بسائطه أو من بسائط بسائطه ولا سبيل إلى أن تفقده، فالباء مثلاً إذا بسطته قلت باء فظهرت الألف، والجيم مثلاً إذا بسطته قلت جيم ياء ميم والياء توجد فيها الألف»
وبذلك يكون الألف متميزاً بالاستقامة عمّا يوجد في باقي الحروف من الاعوجاج والاستدارة وغير ذلك من الصفات الأخرى.
واستقامة الألف نابعة من كونه لا يتصل بباقي الحروف رغم سريانه فيها، ويؤكد ذلك، القشيري بقوله: «اختص كل حرف بصيغة مخصوصة، وانفردت الألف باستواء القامة والتميز عن الاتصال بشيء من أضرابها في الحروف».
وعليه، فإن المتصوفة وضعوا للحروف مراتب في تقابلها مع عالم الوجود، فتتجلى في الألف كل الحروف والخطوط، كما أن الكون حسب الفكر الصوفي، متمركز في نقطة الألف، ومن ثم فإن الحرف المرئي حجاب يتخفى خلفه سر الكون، فقيمته فيما هو محجوب وراءه، وبذلك فإن الحروف لا تتساوى لدى المتصوفة، فهي لها مراتب، وأعلاها مرتبة هو حرف الألف فمقامه خاصة الخاصة، وهو رمز لوجود الذات وكمالها.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©