الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

هيدغر.. ومعضلة التقنية

هيدغر.. ومعضلة التقنية
23 يوليو 2020 00:46

منذ الفلسفة اليونانية وإلى غاية الفلسفة الحديثة، ظل سؤال التقنية يتردد باستمرار، فسواء مع أرسطو أو ديكارت أو ليبنتز أو غيرهم، اعتبرت التقنية موضوعاً يمكن أن يشغل بال الفيلسوف، رغم أن الاهتمام كان ينصب أكثر على العلم، غير أن التقنية في الفلسفة المعاصرة أخذت اهتماماً خاصاً بها، حيث أصبح ينظر إليها كانحراف للعلم، وهكذا أنتج الفكر المعاصر العديد من الأنساق المعرفية، التي حاولت التفكير في معضلة التقنية، وتأثيراتها على الوضع البشري، نذكر على سبيل المثال لا الحصر جيلبر سيموندن وأندريه لوروا غوران وجاك إلول وإفان إليش... لكن تبقى فلسفة هيدغر هي الأشهر في هذا الميدان، أغلب القراءات لآرائه اعتبرت أن طروحاته مناوئة للتقنية، في نظرهم ـ ولعلهم على حق في ذلك ـ فأفكار هيدغر تقدم فهماً لاهوتياً للوجود، من خلال حثها على استعادة الكينونة الضائعة، والآلهة التي تتوارى بعيداً خلف الغسق اليوناني الماقبل سقراطي، هكذا يكون نقد هيدغر للحداثة والتقنية، قد انتهى به إلى فلسفة باطنية ذات منحى صوفي، إلا أنه ومهما كانت فلسفة هيدغر تحتمل من تأويل، إلا أن التقنية ظلت في نظره مصير العصر الذي نعيشه وقدر الوجود الذي نحياه، وهكذا وجب التفكير في التقنية، ليس فقط من جهة الخطر والتهديد الذي تحمله، ولكن أيضاً الوعد الذي تقدمه.

 هنا أيضاً..
 صحيح أن التقنية ما عاد ينظر إليها اليوم تلك النظرة السعيدة والمتفائلة، كما لو أنها محكي كبير Meta récit يتضمن كافة الأجوبة؟ لقد أفضت التطورات الخطيرة التي وصل إليها الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا النانو والهندسة الجينية، إلى أن نعيد طرح السؤال حول أنفسنا ومصيرنا في هذا الكون، وإلى إعادة النظر في هذا الموقف الذي ينظر إلى الطبيعة، كما لو أنها مجرد احتياطي للمواد الخامة، ولكن أن نحافظ على مسافة نقدية مع منجزات التقنية هذا أمر ضروري ومطلوب، غير أن الدفع بفكر الوجود للسباحة الشعرية الباحثة عن معنى ضائع، فهذا أمر آخر.
 في قصة معبرة يقدمها هيدغر عن هيراقليطس، الذي فاجأه تلاميذه وهو يجفف جسده النحيف بجانب فرن خباز، فعندما لاحظ استغرابهم من منظره هذا أجابهم: هنا أيضاً توجد الآلهة، يتناول السوسيولوجي الفرنسي برونو لاتور هذه القصة، ويعكسها ضد فلسفة هيدغر، ففلسفة الوجود لديه، ترى أن الكينونة لا يمكن أن توجد إلا في الآفاق البعيدة، وفي الغابة السوداء، لا يمكن لا للعلم ولا للتقنية أن يجسدا ما هو إلهي وحميد، على النقيض من ذلك يتساءل برونو لاتور بسخرية ماكرة: «هل من أحد نسي الوجود؟ نعم، إنه ذلك الذي يعتقد جدياً أن الوجود قد نسي فعلًا» ص 123، إن مبرره في ذلك، هو أن الآلهة حاضرة في العديد من مناحي الحياة المعاصرة: «في المحطة الكهرمائية على شاطئ الراين، وفي الجزيئات دون الذرية، وفي الأعمال الزراعية كما في المنظر القديم، وفي الحساب التجاري، كما في أبيات هولدرلين المفجعة» ص 122، وبغض النظر عما إذا كان عالمنا لا يزال محافظاً على علاقة ما بما هو قدسي، فإن المقصود بكلام برنو لاتور هو أن حل معضلة التقنية، يقتضي التفكير في الوضع الراهن الذي توجد عليه. 
ما وراء الرفض
الآن بعد أن تبينا مع فلسفة هيدغر الخطر الذي تتضمنه التقنية، حري بنا أيضاً أن نتبين الوعد الذي تنادي به. 
 صحيح أن النزعة التخوفية من التقنية La technophobe تتعاظم اليوم، بالنظر إلى ما وصلت إليه التقنيات في مجال الهندسة البيولوجية، والمعلوميات والنانو من تطور مهول، لكن في المقابل فإن الولع بالتكنولوجيا بدوره ينتشر بقوة في المجتمعات المعاصرة، وبعيداً عن الرؤية التي تمجد التكنولوجيا، وتعتبرها الخلاص الوحيد للبشرية، أو الرؤية التي تنظر إليها نظره رهابية، نريد أن نطرح مسألة التقنية خارج موقف التقديس {الذي يمكن أن تنطوي عليه كل نزعة وضعية مثلاً} وخارج الموقف الرافض {الذي يمكن أن تقودنا إليه الفلسفة الوجودية لهيدغر}. 
 إن الثورة الصناعية الرابعة، أو ما يطلق عليه اختصاراً 4IR، تتجه اليوم إلى تحقيق قطيعة جذرية مع كل ما عهدناه عن التقنية، تتميز هذه الثورة بدمج غير مسبوق بين ما هو مادي وبيولوجي ورقمي في آن واحد، وهذا معناه أن هذه الثورة لا تكتفي فقط باختراع آلات وإنتاج أدوات للاستخدام، بل هي تعمل على تغيير الكائن الحي ذاته عبر اللعب في جيناته، وإحداث مواد جديدة في الطبيعة مثل مادة الغرافين والمايكرولاتس، إضافة إلى الذكاء الاصطناعي، والطباعة الثلاثية الأبعاد وغيرها، يستشهد هيدغر بأبيات شعرية لهولدرلين تقول: هنا حيثما يجثم الخطر، هنا حيث تلوح سبل النجاة. إن هذا معناه أنه من داخل التهديد الذي تشكله التكنولوجيا، يمكن أن تظهر لنا طرق خلاص جديدة. 
أكيد أنه علينا ـ كما يدعونا إلى ذلك هيدغر ـ أن نفكر في المآلات التي تقودنا إليها التقنية، غير أن هذا التفكير عليه أن يفضي بنا في نهاية المطاف إلى قرارات حاسمة، أي إلى القيام باختيارات مهما كانت صعبة ومعقدة، غير أن الفكر بالمنظور الهيدغري مهمة شاقة وطويلة لا نهاية لها، ليس هناك سوى دروب ندخلها كمتاهة لا مخرج لها، إن عالم الألفية الثالثة يتحول من حولنا بشكل مطرد، فإن لم يسعفنا فكرنا الآن وهنا، في إيجاد ما ينقدنا، فمتى سيفعل ذلك؟!

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©