الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

العصبيّة في المجتمع الرقمي

العصبيّة في المجتمع الرقمي
23 يوليو 2020 00:46

«العصبية في المجتمع الرقمي»، هو عنوان أول كتاب من نوعه،عربياً ودولياً، يعالج موضوع تمدّد الفكر التقليدي العصبوي الموروث نحو الوسائط الإلكترونية، وتوظيفه أنماط «ممارساتها الرقمية» في طرق التواصل الحديثة، وتعزيز مفهوم العصبيّة المرتبط بالبنية الاجتماعية، التي توجهالسلوكيات والممارسات بشكل مستتر خلف ستارة الموروث، لتنتقل لاحقاًً إلى شاشة الراهن الرقمية، والانطلاق منها لتبادل خطاب التكاره والتسلط والقدح والذم والتشهير.. وكله من أجل تفعيل الانتصار لجماعة اجتماعية بعينها على جماعة، أو جماعات أخرى.

 مؤلف الكتاب هو د. نديم منصوري، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية، والخبير في علم اجتماع الإنترنت والتواصل الرقمي في لبنان. كما أنه أحد أنشط المواكبين العرب للتحول الرقمي المتجه نحو مجتمع المعرفة وتلبية متطلباته على المستوى القومي العام. والكتاب المذكور سيصدر في بيروت خلال نهاية شهر سبتمبر المقبل 2020.
 وفي حديث لنا معه حول كتابه المقبل، يتساءل د. منصوري: لماذا يستخدم الأفراد الوسائط الرقمية لتفريغ مشاعر العصبية، بدلاً من أن تكون منبراً للتلاقي والانفتاح والحوار؟ كيف يتنوع خطاب العصبيات في المجتمع الرقمي؟ إلى أي مدى تستطيع العصبية تعطيل مبادئ الهوية الرقمية الاجتماعية؟ 
ولنتمكن من فهم هذه «الممارسات الرقمية» العصبوية الطابع لابد -كما يقول المؤلف- من تحليل خطابها على مستويات عدة؛ إذ لا يمكن أن نكتفي، في تحديد الخصائص الشكلية للنتاجات السيميوطيقية أو في الدلالة على طرق الأفراد في استخدام اللغة والأنظمة الرقمية لإنجاز أفعال اجتماعية محددة، أو في الاطلاع على نظم المعرفة العامة التي تنظم ما يقوله الأفراد ويكتبونه أو يفكرون فيه، بل علينا رصد جميع طرق الأفراد في إدارة وإنشاء حياتهم الاجتماعية الرقمية من خلال استخدامهم للوسائط الرقمية. 
وقد حاول الكتاب تفسير العلاقة ما بين ذاك المفهوم التقليدي والموروث (العصبية)، وما بين المفهوم الآخر الحديث والمعاصر (المجتمع الرقمي).
وللعبور إلى مسافات التلاقي ما بين المفهومين، استند الكاتب في مقاربته إلى محاولة إعادة قراءة مفهوم العصبية من خلال شاشات المنصات الرقمية، في قراءة سوسيولوجية متأنية تفسر سبب تسرب هذا المفهوم (الذهن التقليدي) إلى أفراد المجتمع الرقمي الذين يمتلكون، ولو نظرياً، نسق خطاب «الذهن الحديث». 

خطاب العصبيات
وماذا تقول في المواقع التي تبث خطابات الكراهية وما أكثرها عربياً؟ سألت محدثي فأجاب:
أشرت في كتابي، وعبر فصل كامل، إلى أشكال خطاب العصبيات في المجتمع الرقمي الذي يتنوع ما بين «الخطاب العنصري» و«الخطاب القومي» و«الخطاب التكفيري» و«الخطاب الديني/‏‏‏‏الطائفي/‏‏‏‏المذهبي» و«الخطاب السياسي»، وكلها خطابات تستنسخ نفسها بنفسها، على الرغم من تنوع حقولها العامة.
وعليه، يشير هذا التنوع، إلى أن العمل المشترك بين مجموع التفاعلات الرقمية لم ينتج خطاباً موحداً يدعو، مثلاً، إلى التسامح والحوار، أو إلى مساحات التلاقي، بل على العكس، جعل البيئة الرقمية، في أغلبها، مكاناً لتصفية حسابات المجتمع الواقعي، أو مكاناً أوسع لساحات التصارع!!.. ذلك أنه، عندما يستخدم الأفراد التقنيات الرقمية (كأداة ثقافية مستجدة)، نادراً ما يفعلون ذلك فرادى، فهم دوماً يقومون به مع آخرين. وبذلك، يعتبر التفاعل جانباً من جوانب الفعل نفسه، الذي يجسد عملاً مشتركاً يشارك فيه الناس لإنتاج أشكال الخطاب في المجتمع الرقمي. وتأخذ هذه الأشكال الخطابية (التي تعبّر عن واقع ذاتي أو جماعي) اتجاهات مختلفة باختلاف السياقات الثقافية للأفراد ودوافعهم التي توجّه التفاعلات الرقمية نحو ممارسات رقمية متنوعة.
لقد خلقت التكنولوجيا الرقمية مجموعة جديدة من أطر المشاركة في التفاعل، بما يتيح للأفراد فرصة القيام بأدوار ومسؤوليات مع محاوريهم، وتوفير طرق جديدة لإنجاز أمور مثل «النعير الرقمي» (النعير هو صوت الصراخ في حرب أو شر) أو في «عزل العصبيات الأخرى» و«تشويه صورة عصبية ما رمزياً»، مما يطرح سؤالاً جوهرياً، من الذي ينتج أشكال الخطاب في المجتمع الرقمي؟ هل هو تفاعل الأفراد مع الوسائط الرقمية، أم أن الوسائط الرقمية باتت تمتلك القدرة على خلق طرق تفاعل الناس مع بعضهم بعضاً وتوجيه ممارساتهم الرقمية وتوجيه سلوكياتهم لأفعال عصبوية؟
هكذا، فإن صعوبة الجواب عن هذا السؤال الأساسي، جعلتنا نحاول في الكتاب عرض بعض النماذج والأمثلة الواقعية التي تمّت في المجتمع الرقمي، للوصول إلى فكرة أساسية لا تستثني خطورة «القيادات الرقمية» من «جيوش رقمية» 
و«جماعات متخصصة» و«أفراد محترفين» باتوا يشكلون «أصحاب القرار» و«أدوات السلطة» و«المنظرين الحقيقيين» في المجتمع الرقمي.
وبذلك يصبح فهم الممارسات الرقمية أمراً معقداً مع كثرة احتمالات منتجيها (منتج عفوي، منتج متفاعل، منتج موجه...)، إلا أن كل هذه النتاجات الرقمية لا تختلف عن برنامج عمل العصبيّة، بل على العكس، نرى هذا البرنامج يتقاطع معها أو ينخرط فيها، مما جعل ويجعل الوسيط الرقمي في خدمة العصبية، تستفيد منه لاستمرار غُلبها.

الهوية الرقمية
كما حاولنا في الكتاب -والكلام للدكتور منصوري- تفسير مفهوم الهوية الرقمية التي تقع ما بين تعريفين مهمين: الأول تقني والآخر اجتماعي. بدأنا بتفسير الهوية الرقمية من الناحية التقنية لإيصال فكرة أساسية، أن الفرد الرقمي لن يبقى من دون هذه الهوية التي ستسهل له انضمامه إلى العالم الرقمي. وأن البيانات البيومترية التي توفرها هذه الهوية باتت جزءاً أساسياً من حياة الأفراد في القرن الحادي والعشرين، ومن تركيبة حياتهم، إلا أن الجدل الحاصل يكمن في الهوية الرقمية من الناحية الاجتماعية، لأنه من خلالها تتمّ ترجمة الشخصية الذاتية للأفراد نحو ممارسات رقمية تعبّر عن هذه الهوية، فتظهر بذلك أنواع الهويات المختلفة في المجتمع الرقمي.
وعرضنا لذلك، مبادئ كل من الهويتين، الهوية الرقمية التقنية ومبادئها (الشمولية، الملكية، السهولة، السرية، الموافقة، الشفافية، الأمن والنزاهة، حق البيانات، الاستخدام العادل). والهوية الرقمية الاجتماعية ومبادئها (اللغة، آداب التواصل، أخلاقيات التواصل، التواصل الثقافي الرقمي، التبادل الثقافي، الانفتاح، الحوار، التكامل الإنساني).

إلا أن هذا العرض أخذنا إلى تفسير التجاذبات المحتملة للهوية الرقمية الاجتماعية مع مفهوم العصبيّة، خصوصاً أن مفهوم الهوية من أكثر المفاهيم المعقدة في التفسير السوسيولوجي، فكيف سيكون الأمر مع دخول الوسيط الرقمي؟
لقد طرحنا في الكتاب.. والكلام للمؤلف.. العديد من الأسئلة، هل شكّل المجتمع الرقمي مصدراً جديداً للهوية؟ هل يشكّل هذا المصدر الجديد عاملاً لتعزيز الهوية التقليدية، أم يشكّل تهديداً لخصوصيتها؟ هل يسهم المجتمع الرقمي في تغيير ماهية سلطة الهوية؟ هل تمكّنت الدول القومية من الحفاظ على توجيه هويتها، أم أنها باتت تفقد صفة المحرك الوحيد للهوية في ظل المجتمع الرقمي؟ 
ولكن كيف علينا أن نواجه خطاب العصبيّات الرقمية من خلال كتابك؟.. سألت د. نديم منصوري فردّ من فوره: 
خلصت في الكتاب إلى عرض الأمور التي يمكن اتباعها لمواجهة العصبيّة في المجتمع الرقمي، من خلال أربع آليات أساسية هي:
تعزيز الأطر القانونية الرادعة لخطاب العصبيّات، وتعزيز التعليم الرقمي كاستراتيجية مواجهة، والتربية على المواطنة والمواطنة الرقمية، تطوير المهارات النقدية لدى المستخدمين لمواجهة خطاب العصبيّات. 
وتعتبر هذه الآليات مدخلاً للمواجهة الأساسية للعصبيّة في المجتمع الرقمي، من دون أن نقفل الباب على أي آليات أخرى تساعد أو تساند عملية المواجهة، إلا أن الآليات المطروحة في الكتاب تعطي القارئ خطوات عملية تمكّنه من تكوين حالة الوعي الرافض لهذه الممارسات الرقمية العصبوية من جهة، وخطوات إجرائية مواجِهة يمكن تطبيقها للدخول إلى حيّز العملانية في المواجهة من جهة أخرى.

فضاء بلا كراهية
في نهاية المطاف، يصبّ كتاب «العصبيّة في المجتمع الرقمي» في إطار مشروع سوسيولوجي طموح، يعمل على تمكين جيل عربي، يمتلك متطلبات الحياة الرقمية. لأنه لا يعقل أن يكون المجتمع الرقمي مكاناً للعصبية، وهو ذاك الفضاء المفتوح والمشترك والكوني. وعلى الجيل الجديد بشكل خاص، أن يمتلك المهارات الرقمية التي تجعله شريكاً أساسياً في المجتمع الرقمي، ناقلاً لثقافته الغنية بالفكر والإبداع، ومبتكراً في خلق المحتوى الرقمي الذي يظهر فيه وجدانه الإنساني الخالي من كل أشكال الكره والتطرف والعصبيّة. وما نريده هو إنسان يفتخر بثقافته العربية، يمتلك ذهناً عالمياً بمعايير المواطن الرقمي، بقلب إنساني مشترك ودائم التفوق على نفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©