الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

قصيدة نثر خارج سلطة النصّ

المخرج أندريه تاركوفسكي
7 يوليو 2020 00:10

إبراهيم الملا (الشارقة)

يصف المخرج الروسي الكبير أندريه تاركوفسكي السينما الشعرية، بأنها السينما التي تبتعد بجسارة في صورها عمّا هو واقعي، مضيفاً أن السينما الشعرية، عادة، تَلِدُ، رموزاً، مجازات، ومظاهر أخرى، أيّ أشياء لا علاقة لها باللغة الطبيعية الملائمة للسينما.
إن هذا التوصيف الذي يورده تاركوفسكي، يحيلنا للبحث عن العلاقة التبادلية بين السينما كصورة مزدحمة بالصيغ التفاعلية، وبين الشعر كنصّ يميل لصيغة مكثّفة هي بنت اللحظة التأملية القصوى، الجامعة بين القارئ في عزلته الاختيارية، وبين الكلمات المتحرّرة من عبء الالتزام القسري، وتوجيه خطاب محدد ذي بعد أيديولوجي أو قيمي مؤطّر ومقيّد بهذا الخطاب.
ومن هنا أيضاً يمكن لأنماط الكتابة الشعرية أن تتداخل مع أنماط السينما الشعرية، فالملاحم والأساطير والسرديات الكبرى، يمكن أن تجد لها حضوراً في الأفلام الروائية الطويلة، بينما يمكن للنصوص الشعرية القصيرة أن تتنفّس في مناخات الفيلم الروائي القصير، وبالتالي فإن كثافة التعبير البصري في هذه النوعية من الأفلام، تصبح هي الأقرب لقصيدة النثر ولكن بعيداً عن سلطة النص ذاته.
وإذا كان الشعر في أصله هو «الوعي بالعالم» افتراضياً، فإن السينما الشعرية هي تجسيد لهذا الوعي، ليس باعتباره وعياً منتجاً للإجابات، بقدر ما هو وعيّ منفتح على أسئلة لا نهائية، أسئلة حول الوجود والجمال والبؤس والحياة والموت والخلود، وغيرها من الأسئلة الملتهبة، أسئلة تقيم في الشكّ، وتتناوب على خلخلة الأفكار الثابتة والتفسيرات المحنّطة.
تقدم الأفلام الشعرية القصيرة ومضاتها البصرية، وكأنها تترجم قصائد الهايكو مثلاً إلى رؤى صوفية، وإلى أحلام يقظة، تتعدى حدود المنطق وحيّزه الضاغط، لتحلّق في سماوات ملموسة وقريبة حدّ الانكشاف على لغة كونية، تعبر بنا فوق جغرافيا المكان وتراتبية الزمان، إنها الأفلام التي تخاطب أعماقنا لا عيوننا فقط، وتجعل من الإدراك منفذاً لاجتراحات وإمكانات تتخطى الشكل وتنطلق نحو الجوهر، جوهر الكائن وجوهر الأشياء المحيطة بهذا الكائن.
ويمثّل المخرج السينمائي الجورجي «ميخائيل كوباخيدزه» نموذجاً صارخاً لكيفية توظيف الشعر في الأفلام القصيرة، والتي قدمها بعناوين لافتة، وصيغ مبهرة.
وفي حوار معه، ترجمه الناقد السينمائي صلاح سيرميني، يقول كوباخيدزه: «لقد اخترت السينما لأنني – ربما – كنت مهتماً باللاوعي الذي يتجسّد في أحلامي، وهي تتشابه كثيراً مع الأفلام التي أردت إخراجها»، مضيفاً: «لقد فتح اللاوعي عينيّ على ما يحدث في الحياة الواعية، وكل ما شاهدته في أحلامي، والرموز التي رافقتها، تحوّلت إلى صور، وهو السبب ربما لغياب الحوارات من أفلامي، وتفضيل إخراج أفلام صامتة».
إن الصمت الذي يشير إليه كوباخيدزه هنا يؤكد أولية النصّ المرئي في شريط السينما، مقارنة بالنص الشعري المكتوب على الورق، لأن النمط الكتابي يفرض أحياناً اللجوء إلى الحوار، والحوار شرح وتوضيح، بينما الفيلم الشعري القصير ينتصر لآلية التأويل والسفر الذهني والعاطفي إلى عوالم لم يتم اقتحامها سابقاً.
إن طبيعة العمل مع هذه النوعية الخاصة جداً من الأفلام، هي التي تجعل من الزمن برزخاً يلخّص رغبتنا في التماهي مع النسيان، والانفلات من قبضة الذاكرات القاسية، والتي يصفها المخرج كوباخيدزه بجملة مسدّدة نحو المعنى: «لا توجد حوارات في أفلامي، ولكنها ليست صمّاء بكماء، السينما الصامتة، ناطقة بغير صوت، ولا تتبنى أفلامي جماليات السينما الصامتة، إنها منجزة بطريقة لا تحتاج لكلمات، في كل الحالات يجب أن تكون معلّماً كبيراً، لتعمل مع الكلمات».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©