الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الأب ده شاردان.. كاهن الفرح العميق

الأب ده شاردان.. كاهن الفرح العميق
2 يوليو 2020 00:43

تميّز بعض رجال الدين المسيحي في العالم، بخاصة الكاثوليك منهم، بنزعة سيو/ ثقافية دينية أخذت طابع تأويلات اجتهادية وفلسفية أثارت جدلاً واسعاً داخل الدوائر الدينية وخارجها؛ فتم تجاهلهم أحياناً، وأقصوا في بعض الأحيان عن العمل اللاهوتي بهذه الكيفية أو تلك. لكن في ما بعد أعيد الاعتبار لهم من رأس الكنيسة الكاثوليكية نفسها (الفاتيكان).
 ومن أبرز رجال الدين الكاثوليك هؤلاء نذكر الأب والفيلسوف الفرنسي بيار تيلار ده شاردان (1881 – 1955) الذي حاول دمج السؤال الديني بالسؤال العلمي ومسألة علاقة ديناميّة الإيمان بديناميّة التطوّر الحاصل في عناصر الطبيعة نفسها والإنسان كجزء من هذه العناصر المتطوّرة بالضرورة.
 والأب ده شاردان هو الذي أنصفه بابا الفاتيكان السابق بنديكتوس السادس عشر في العام 2009 وأشاد بفكرته التي تعتبر الكون «المضيف الحي»، ولم يعتبره خارجاً عن الكنيسة عندما قال بأن «الدين والعلم هما صورتان للشيء نفسه»، وأن التطور الروحي والإيمان بالنسبة إلى الإنسان، لا يتناقض مع طموح الوصول إلى علامة أوميغا (الحرف الأخير من اللغة اليونانية) التي إليها يتوجه الجميع، جميع المؤمنين بالله في الديانات السماوية.

وعندما استحدثت دولة الإمارات العربية في 8 فبراير من العام 2016 أول وزارة للسعادة، كخطوة حكوميّة رياديّة وغير مسبوقة عربياً، وحتى دولياً، طفق كثيرون في بيروت يتحدثون يومها عن هذه الخطوة الرسمية الاستثنائية ووجدوا فيها مساراً رسمياً وعملياً لترجمة مفهوم السعادة والتسامح في المجتمع الإماراتي عن طريق تكريس مشروعات دولة الإمارات وسياساتها وبرامجها في التنمية والاقتصاد والتعليم والصحة، لتعزيز الإنسان الإماراتي أو المجتمع الإماراتي وجعل هذا المجتمع يشعر جماعياً بأنه سعيد ومُؤمَّن له رغد العيش بشكل مستدام، إنما على قاعدة موازية من مسؤوليّة الإنتاج الدائم والتنويع باقتصادات البلد لتتجاوز آحادية المورد النفطي وتأمين مستقبل الوطن والإنسان في الإمارات.

وزارة السعادة 
 مفهوم تكريس وزارة للسعادة في الإمارات، كما نفهمه من وجهة نظر علم الاجتماع السياسي (علم جديد يدرس العلاقة بين الممارسة السياسة ونتائجها على أرض الواقع الاجتماعي... والعكس) يعني تتويجاً لتثبيت إراحة الإنسان واستطراداً للوضع الاجتماعي العام وتناغمه مع عدالة الدولة وقيادة مجتمعها لبلوغ الرفاه والسعادة؛ وهو مفهوم يكاد يحاكي معاني أطروحات فلسفية سبق وتقدم بها فلاسفة كبار في العالم منذ القدم، بدءاً من أفلاطون والفارابي - مثالاً لا حصراً - ووصولاً إلى يومنا هذا، مع أطروحات البريطاني برترندراسل والأميركي جيرمي بنثام والفرنسي بيار ده شاردان. والأخير نَظَرَ للمسألة من باب فلسفة السياسة العلمية ومواءمة المبدأ الديني معها لخدمة الإنسان، أولاً وأخيراً.
ولأن الأب ده شاردان كرّس ذلكم المفهوم العالمي لمبدأ السعادة وشرحه فلسفياً، فلا بدّ من إلقاء الضوء على هذا الفيلسوف، الذي عمّت تجربته الآفاق العالمية كافة، كونه اشتغل على الموضوع بدأب عميق في الصين، كما في الولايات المتحدة.. فضلاً عن بلده الأم فرنسا. وكانت تجربته في الصين، التي أقام فيها ما يزيد على العشرين عاماً (دخلها عام 1923)، ذات طابع غني بالمعارف الأخلاقية والميثولوجية الصينية، فضلاً عن إلمامه العلمي بالجيولوجيا الصينية وحفرياتها، والتي أهّلته ليضع أول خريطة عامة لجيولوجيّة الصين.
 كما أهّله تخصّصه في علم المتحجرّات البشرية إلى أن يكتشف مع العالم هنري برويل «إنسان بكين»، أحد أشهر معالم «الإنسان المنتصب»، والتي قدرت المكتشفات العلمية إلى أنها تعود إلى 400 ألف سنة مضت خلال مرحلة العصر البليستوسيني؛ و«إنسان بكين» أقرب أقرباء «إنسان جاوة»، تلك المستحدثات البشرية التي اكتشفت في العام 1891 على ضفاف نهر سولو في جاوة في إندونيسيا، وتمثل هي الأخرى أوائل العيّنات المعروفة للإنسان المنتصب والتي تعود إلى 700 ألف عام خلت.

وكان الفيلسوف ده شاردان قد ألقى الكثير من المحاضرات الفلسفية والفكرية والكهنوتية والعلمية في الصين، كانت أهمها تلك التي ألقاها في بكين مساء 28 ديسمبر من العام 1943 وجاءت بعنوان «خواطر في السعادة»؛ وهي أشبه بدراسة مطولة صدرت في باريس لاحقاً تحت عنوان: Pierre Teilhard de Chardin, Sur le Bonheur, Editions du Seuil, Paris, 1966. 
يرى ده شاردان أن الإنسان شأنه شأن الكائنات الحية يرغب في أن يكون سعيداً؛ إلا أن هذا المطلب الأساسي يتخذ عنده شكلاً معقّداً وجديداً. فالإنسان في الواقع كباقي الكائنات الحيّة في ما يخصّ شعوره وإحساساته، إلا أن «الأنسنة» جعلت منه الحي المفكر والناقد. وموهبة التفكير تتضمن خاصيتين هائلتين، أعني إدراك الممكن وإدراك المستقبل. إنها قدرة مزدوجة أدّى ظهورها إلى إحداث البلبلة والتبدّد في ارتقاء الحياة التي كانت حتى ذاك الوقت شديدة التناسق والصفاء. يتّحد إدراك الممكن بإدراك المستقبل فيجعلا مخاوفنا، وكذلك آمالنا، تتكثف وتتوزّع في كل الأنحاء؛ فحيث يتقدم الحيوان من دون صعوبة وبخطى أكيدة نحو ما يرضيه ويشبعه، يرى الإنسان، في الموضع عينه وعند كل خطوة، وفي كل صوب، مشكلة لم يزل يفتش منذ أن أصبح إنساناً عن حل نهائي وشامل لها من دون نتيجة تذكر.

ما هي السعادة؟
كان الأقدمون يتحدثون عن «الحياة الطوباوية»، فما هي السعادة؟
تتوالى في هذا الموضوع الكتب والأبحاث والاختبارات الفردية والجماعية بوجه مؤثر منذ أجيال، من دون أن يتوصل الناس إلى الإجماع. وفي نهاية الأمر، فنتيجة النقاش العملية في نظر الكثيرين منا تقضي بأنه من العبث متابعة التفتيش؛ إما أن لا حل للمشكلة، والنتيجة أن لا سعادة حقيقية في هذا العالم، وإما أن للمشكلة حلولاً جزئية لا نهاية لها، وبالتالي تبقى المشكلة مبهمة؛ فربما تكون السعادة مجرد قضية شخصية: فالواحد يحبّ الشراب والمآكل الطيبة، والآخر يفضّل السيارات والشعر أو أعمال الخير والمبرّة؛ فلكل واحد ذوقه ولكل واحد حظه. هذا ما سمعتموه كثيراً دون شك، وهذا ما تفكرون فيه أيضاً بعض الشيء.
ويردف الفيلسوف ده شاردان: أما ما أبتغيه الآن، فهو أن أواجه مباشرة هذا التشكيك النسبي، وفي النهاية التشاؤمي، وهو أمر معاصر، فأبيّن لكم أن حظ السعادة العام لا يشوبه الالتباس على ما يقال عادة، شريطة أن نستند في بحثنا إلى دروس العلم والبيولوجيا ونقصر مهمتنا على تحديد الفرح الحقيقي... وبما أنّي لا أستطيع، ويا للأسف، أن أمنحكم السعادة، فلعلني على الأقل أن أساعدكم في العثور عليها.
 قسّم الفيلسوف الأب تيار ده شاردان محاضرته إلى جزءين: في الأول، وطابعه نظري، حاول تحديد الطريق الأفضل المؤدي إلى السعادة البشرية.
وفي الجزء الثاني، وهو في شكل خاتمة، يتساءل كيف نوفق بين حياتنا أفراداً، والمحاور العامة التي تفضي إلى السعادة.
أما الفرح الحقيقي أو السعادة العميقة، فقال إنها المعجزة التي زرعها الله فينا لمواجهة الكآبات المتراكمة التي تتسبب بها، إمّا الجائحات الطبيعية الكبرى التي تعصف فجأة بالكائنات الضعيفة، وعلى رأسها البشر، أو تلك التي يتسبّب بها الإنسان لأخيه الإنسان. الأولى تدفعنا إلى أن نتفهم بالعلم غضب الطبيعة ونعمل، بالتالي، على درئه وتجنبه.
 والثانية هي عبارة عن نداء نتوجه من خلاله إلى الحكّام لنوصيهم خيراً برعيتهم وبأن يزرعوا في هذه الرعية روح الفرح العميق النافذ، والتي هي بالمناسبة أشبه بقبس إلهي له دائماً قوة الولادة الجديدة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©