الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

سالينجر.. بقاء شرس في البيت

سالينجر.. بقاء شرس في البيت
2 يوليو 2020 00:43

أشد ما لفت انتباهي في السيرة التي دونها (ديني ديمونبيون)، هو فصلٌ لغفلة النقاد عن رواية حارس الشوفان، (قبل أن يدخل سالينجر في خلوته الحميمية)، وأكّده مؤلف السيرة بقوله: 
 (في مجمل التحليلات، كانت التأثيرات الاجتماعية للرواية قد أُغفِلت، بل إن كل جمالية الرواية أُهمِلت جانباً).
ثم فصل آخر من الكتاب، يورد المؤلف المغريات الأدبية التي تدفقت على سالينجر بشكل أكبر (بعد اختياره العزلة)، وتدفقت عروض الناشرين المذهلة لاستقبال أعماله بكل فخر وحفاوة بعد سنوات من الرفض، واقتراحات بإدراج اسمه تحت خانة الكتّاب الأكثر شهرة. لقد أزعجه جداً ابتذال اسمه في الشهرة، فاضطر لاستخدام أسماء مستعارة عند ضرورة الخروج من المعتزل. وناهينا عن تلك الدعوة المرسلة من البيت الأبيض، أرسلها الرئيس الأميركي جون كينيدي تكريماً له ولمجموعة من الكتّاب والفنانين الأميركان الذين ساهموا بشهرة الولايات المتحدة في العالم. وكان أن قابل سالينجر تلك الدعوة بتجاهل بارد!

كيف يمكن رؤيته دون إزعاجه؟
 تمنيتُ وأنا أتخذ قرار شراء هذا البحث السّيريّ للمؤلف (ديني ديمونبيون)، أن يكون الباحث الذي أشعلته حماسة الفضول الجريء للتغلغل في المخاطر قد تحرّى الدقة في الاشتغال على الكتاب، بعيداً عن الحماسة الزائدة والاختلاق والافتراض والتخيّل المُضلِل. وهذا ما أظنه قد نجح فيه بتميّز شديد، إذ ليس من السهل الكتابة عن سيرة سالينجر، لكن ما ميّز ديني ديمونبيون هو قرار احترام جدار الصمت والرّحيل المفاجئ الذي اتخذه فور وصوله إلى معقل سالينجر على بُعد خطوات، حيث كان الآخر في متناول النظر، وهنا تحديداً توقف الباحث مفاجأ من سؤاله الداخلي الغريب: «كيف يمكن رؤيته دون إزعاجه؟ عندما يقترب المرء إلى هذا الحد من الهدف، هل من المعقول التخلّي بعد قطع كل هذه الكيلومترات على الأرض، وبعد اجتياز محيط؟ هل كان من الأفضل قرع بابه، حتى لو كلّف ذلك الإهانة والطّرد؟».
 بين خشية إزعاجه، والتخوّف المبهم من الطّرد كما يُطرد الإنسان الفظّ عديم التربية، بدا الهامش ضيقاً، فقرر الباحث أن تكون الزيارة القادمة مسبقة باستئذان.. عبر مهاتفة أو مراسلة. 
غير أن ذلك لم يحدث أبداً، إذ بمحاولة واحدة من الاتصال، تلقى ديمونبيون ردّاً مُحبِطاً من زوجته. ورغم لطافة الرد المقتضب الموحي بالرّفض المطلق، إلا أنه شعر وكأنه كائن فضولي متطفل، عديم الذّوق وقد استحق الرّفض الأشبه بالطّرد.
استثمر ديمونبيون قواه في البحث عن كل شاردة وواردة في حياة سالينجر من شأنها أن تغذّي كتابه السيريّ، فزار أماكنه الخاصة والتقى بمعارفه، إما بصورة حميمية أو مصادفة، وتقصّى أخباره في المدارس والكليات ودور النشر، وأبحر بعمق في رسائله المتبادلة، وكلما طال الزمن تراكمت المواد والمعطيات والمراجع التي أجابت على الكثير من الأسئلة المترددة في الأذهان. 
بعد قراءتنا لرواية الحارس في حقل الشوفان، الرواية الوحيدة لسالينجر قد تبدو الشخصية مستعارة لشخصيته الساخرة في الحياة، الملتبسة مع النفور والرفض للتسطّح والتفاهة والنفاق، والطامحة للوحدة والخلاص من التبعيّة للعائلة والمجتمع، هناك التقاءات مفصلية في مسيرة حياة سالينجر تبدو ثنائية التعالق مع الحارس في الشوفان، منها: فشله الأكاديمي وكراهيته لقواعد التعلّم الجامدة، ثم تحكم والده بمساره التعليمي ومصيره الوظيفي كتاجر لحوم الحيوانات، وزجّه في الحياة العسكرية، ثم محاولة التنفس الجزئي عبر التحرير الأدبي في مجلة عسكرية، وانعتاق مواهبه في المسرح والدراما والرياضات المتنوعة، وأخيراً صدمات الحرب والتشرّد، وفرص الحب المهدورة بين البلدان التي انتقل إليها ومنها. 
يعرض الكتاب أسراره التي ستقلب ربما بعض التصوّرات التي أشيعت حوله على أنه حبيس عصابي ومصاب بانعدام الثقة بالبشر والقدر، فقد اتبع المؤلف وصفاً تحليلياً قائماً على الاقتراب الحساس والكثيف من كتابات سالينجر وما تنمّ عنه من حالة نفسية وخيبات أمل وعذابات.

ازرع بستانك
ما بين المراوحة بين بستان البيت وبستان الكتابة، التفت سالينجر إلى البوذية في مرحلة واكبت نشر الرواية الأولى والوحيدة «الحارس في حقل الشوفان»، حيث ارتبط بصداقة مع الفيلسوف الياباني «دايستز تاييتارو سوزوكي» الدّاعي إلى توسيع انتشار البوذية في الغرب، وهنا طرح المؤلف سؤالاً مهماً: «هل سعى الكاتب الحبيس باختياره إلى التوازن عن طريق البوذية، وهو الذي فكّر في وقت ما أن يصبح راهباً؟».
لقد عكست نصوصه المكتوبة في الخلوة روح التأمل وإعادة التجسّد والتقدّم في المجال الرّوحي، كانت تلك ثيمة عامة وجديدة لكتاباته. حرره الكوخ والمعتزل الغابيّ من السوداوية التي خلفتها ذكريات الحرب والفقد، ناهينا عن إصابته البليغة حين تلقى ضربة هاون أذهبت أذنه اليسرى، مُحدثة صمماً وعجزاً باقياً مدى الحياة. كرّس سالينجر حياته الكوخيّة في كتابة نصوص أشبه بمرافعة اتهامية لا ترحم ضد الحروب، محاولاً كشف زيف البطولات. 
تتالت السنوات مع قسوة الشتاءات وهطولات الثلج، وحده سالينجر يمجّد البقاء الشرس في البيت، يواصل مراقبة العالم والمستجدات السياسية وكوميديا المواقف والمسلسلات الهزلية عبر نافذته الوحيدة «التلفزيون»، تغمره السعادة بنجاح البقاء بين صعوبات الطبيعة، واجتيازه الفصول كما الأعجوبة، ها قد وجد ذاته أخيراً، وأبدع في فن بدائي يصعب على البشرية إتقانه، فن البقاء في البيت، أغلق باب العالم عليه وعاش مرتاحاً مع فيض الغابة الحسيّة.
 ألم يكن الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال على حق عندما أكد أن: «تعاسة البشر، لا تأتي إلا من شيء واحد: عدم معرفتهم كيف يبقون مرتاحين في غرفة»؟!

 هامش:
*ديني ديمونبيون، سالينجر في حياته الحميمية، ترجمة: زياد خاشوق، دار المدى، الطبعة الأولى 2020م

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©