السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

العزلة في التصوف والفلسفة

أبو العلاء المعري (رسمة تخيلية)
11 يونيو 2020 08:15

جرب معظم سكان الكرة الأرضية بسبب «كوفيد 19» حياة العزلة، والعزلة ليست كلها سلبية، وإنما لها جانب مشرق، لأنها طريق مختصر للتأمل وإعطاء الأولوية لما هو روحي على ما هو مادي، فهي تسحب الإنسان إلى زاوية خاصة به وحده وتحيّدهعن التشتت بسبب ضجيج الحياة وانشغالاتها، وتبعده عن صراعات الخارج وشروره، كما تساعده على استعادة إنسانيته التي غيبها الواقع الخارجي والقوى التي تعمل بدون كلل على تشييئه وامتلاكه واستلابه وتغريبه وكلها أمور يغيب خلف طبقتها السميكة الجانب الروحي للإنسان، وإذن ففي العزلة فرصة لإصلاح الباطن، حيث يجد الإنسان نفسه وجهاً لوجه مع جانبه الروحي بكل نوره وثرائه.
والعزلة اختارها المتصوفة أثناء سلوكهم ومجاهدتهم من أجل الوصول للحضرة، وأيضاً حضرت لدى الفلاسفة سواء في تنظيراتهم أو لما اختاروها كنمط حياة واعتزلوا الناس ليكون نفع البشرية منهم أكبر.

يختار المتصوفة العزلة لأنها حسب فهمهم هي السبيل السالك للابتعاد عن شرور الواقع وسفاسفه، كما أنها تمنحهم حريتهم بشكلها الأخلاقي فتعبد لهم الطريق الموصل إلى غايات التصوف، وقد أكد الجنيد ذلك بقوله: «من أراد أن يسلم له دينه، ويستريح بدنه وقلبه، فليعتزل الناس، فإن هذا زمان وحشة، والعاقل من اختار فيه الوحدة»، ويقول عبدالمجيد الشرنوبي أيضاً في نفس السياق: «على الصوفي أن يعتزل الخلق الذين لا خير فيهم ويترك فعلهم».

  • شوبنهاور

خلوة عامة وخاصة   
ويرى ذو النون المصري، أن الإنسان: «إذا خلا، لم ير غير الله تعالى، فإذا لم ير غيره، لم يحركه إلا حكم الله، ومن أحب الخلوة، فقد تعلق بعمود الإخلاص، واستمسك بركن كبير من أركان الصدق».
والخلوة الصوفية نوع من العزلة التي تمكن الصوفي من تطهير قلبه من أدران العالم، ويرقى المريد من حالة معرفة الذات إلى حالة معرفة الله، والخلوة ليست جديدة لدى المتصوفة وإنما مارسها الأنبياء والرسل فالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، كان يختلي بنفسه في غار حراء.
وعزلة الصوفي في خلوته تساعده على الهجرة إلى الله من خلال التأمل والتطهر ومجاهدة النفس، فيتمكن من الارتفاع إلى مقام عالٍ يوصله إلى مصاف أهل الصفاء، ومن شروط دخول الخلوة، التطهر من الدنيا وإخلاص النية وتنظيف القلب والتحلل من الذنوب تجاه الخلق، لأن الخلوة تفشي عن الحضور والمجاهدة من أجل الوصول، ولا يدخل المريد إلى الخلوة إلا بإذن من معلمه الأكبر، ولا يسمح له هذا الأخير بدخولها إلا إن رآه جاهزاً لذلك.
والخلوة الصوفية نوعان، عامة وخاصة، فخلال الأولى يقوم المريد بالابتعاد عن الخلق والتفرغ لتصفية القلب من الشوائب والتفكر، أما الخلوة الخاصة فالمقصود منها الوصول إلى مراتب الإحسان والتحقق بمدارج المعرفة.

العزلة في الفلسفة 
نجد العزلة من الأمور التي حضرت في الفلسفة منذ القديم، وهناك فلاسفة عاشوها بطريقة طوعية أو فُرِضت عليهم، وهناك من نظر لها فقط، ولكن ما أجمعوا عليه، أن العزلة دائماً لها نتائج إيجابية على الإنسان وتسهم في تحريره وإطلاق سراحه من سجن الواقع فيكون معطاء أكثر، ومنتجاً أكثراً، وخاصة إن كان مفكراً ومبدعاً. 
ومن المفكرين الذين عاشوا العزلة والابتعاد عن الناس ودعوا إليها، الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور فهو من المؤيدين لحياة العزلة ويراها مرادفاً للسعادة والحرية ويؤكد على ذلك بقوله: «لا نكون أحراراً إلا في عزلتنا»، لأن الاختلاط حسب شوبنهاور له ثمن والمتمثل حسب تعبيره في: «تقديم تضحيات وتنازلات باهظة بمقاييس الميالين بطبعهم إلى الانفراد والعزلة، والمشمئزين من المخالطة». وشوبنهاور يمجد العزلة وهي بالنسبة له تظهر معدن الأفراد، وقيمة الأنا وجودتها، فالذي لا يتحملها يكشف عن بؤسه الروحي أما الذي يتحملها ويعشقها أيضاً ويسعى إليها فيكشف عن سموه وعن جودة عالية في أناه الشخصية، ولذلك فبالنسبة لشوبنهاور، فإنه يقيس جودة الأشخاص بمدى ميلهم إلى العزلة، فالذين يميلون إليها هم الذين يعول عليهم لإنتاج ما ينفع البشرية، بالإضافة إلى تحقيق متعتهم الخاصة وهي متعة روحية خالصة وكل هذا يصلون إليه حسب شوبنهاور من خلال عيشهم بين عزلتين، العزلة الفكرية والعزلة الجسدية. 

  • جان جاك روسو

أما الفيلسوف الفرنسي جون جاك روسو (1712 - 1778) فقد فرضت عليه عزلة الحجر الصحي في فترة من فترات حياته بسبب الوباء، ووجد نفسه وحيداً في حجرة فندق بائس خال من الأثاث، فلم يتذمر، وإنما اعتبرها فترة ثرية من حياته وما قاله حول الموضوع يؤكد ذلك: «في هذا الفندق الفارغ تماماً لم أكن أخشى من الوحدة ولم يسبق لي أن شعرت بالسآمة بل إن خيالي ملأ كل الفراغات وكان وحده كافياً ليشغلني».
وهناك أيضاً الفيلسوفة  الألمانية حنه آرندت التي مجدت العزلة ورأتها ضرورية ليكون هناك عطاء وأكدت ذلك بقولها: «يمكن للعزلة أن تكون الحالة الطبيعية لكل العمل الذي أركز فيه، إلى درجة أن حضور الآخرين، بما فيهم ذاتي، لا يمكنه إلا إرباكي، فقد يكون فعل كهذا ضرورياً لأُنتج أو أصنع شيئاً جديداً، بل ويحتاج إليه، يتطلب التعلم وحتى مجرد قراءة كتاب إلى درجة من العزلة، إلى الحماية من حضور الآخرين».
وفي الجانب العربي نجد أبا العلاء المعري (363- 479هـ) الشاعر والفيلسوف واللغوي والذي يعتبر من أشهر كتبه «رسالة الغفران» وديوان «اللزوميات»، وقد اختار العزلة، فعاش رهين المحبسين، محبس العمى ومحبس البيت، وقيل إنه قرر الاعتزال في بيته بعد وفاة والده، وأعلن عن قرار اعتزاله الناس بقوله: «أجمعت على انفراد يجعلني كالظبي في الكناس، ويقطع ما بيني وبين الناس إلا من وصلني الله به وصل الذراع باليد، والليلة بالغد»، والمعري في عزلته حسب طه حسين: «لم يدع لنفسه شهوة إلا أذلها ولا عاطفة إلا أخضعها لسلطان العقل»، وعزلة المعري تعد عزلاً لجسده وتحريراً لروحه، وإنتاجه الفكري وأشعاره التي خلفها بكل العمق الفكري والروحي الذي تضمنته تأكيد على مزايا العزلة وإيجابياتها.
ومن خلال ما سبق يتأكد أن العزلة سواء كانت اختيارية، أو إجبارية كالتي يفرضها الحجر الصحي، لها إيجابياتها، وخاصة فيما يتعلق بالجانب الروحي، فهي تمنحنا الفرصة للتصالح مع ذواتنا وتخصيص الوقت للقراءة والتأمل كما تمكننا من إجادة ما ننتجه سواء كان فكراً أو إبداعاً أو غيره.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©