الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

صبحة الراشدي تكتب: حفنة من ترابها

صبحة الراشدي
2 ديسمبر 2021 00:54

لم يخذلنِ النسر الذي بداخلي، في أعلى تلك الرَّابية، خانتني مظلتي فهويت صريعاً تماماً كالنسر ذي الجناحين المحطمين. ما زلتُ أتذكر ذاك اليوم على الرغم من مرور عقد من الزمن، هجم عليّ سربٌ من الطيور المهاجرة وكأنها جيوش غازية أقبلت وتجمعت حولي، لفت انتباهي أحدها، له من الجمال والهيبة ما يفقدك العقل، بجناحين لم أرَ مثلهما، يصل طولهما إلى نحو المترين، تقوس عليّ بجناحيه، لم يكن كآكل النسور، بل كان «عقابا»، ذلك النسر الخطاف، لهُ مخالب قوية ونظره ثاقبة ومنقار الجوارح، يقتلع القلوب ويلتهمها كالتهام النيران للعشب، أو انتزاع الشجر من جذورها.
اقترب مني، شعرت حينها بأنه سيضعني بين فكيه، ضمني بجناحيه، وقال لي:
ما بها مظلتك؟ أين هي قواك؟
أخذتُ نفساً عميقا، وقلت له: سمعتُ عن قصة ذلك الجبلي؟
لا 
إذاً سأحدثك عنه.. كان في إحدى القرى جبلي كلما خرج لسفر أخذ معه حصانه، وعلى ظهره ثلاثة أشياء مربوطة: كيس كبير مملوء، وقربة صغيرة وإبريق، كانت هذه حياة الجبلي طوال تلك الأعوام، وفي إحدى المناطق ابتعد الجبلي عن حصانه، فأخذ المتسكعون يعذبون الحيوان المسكين بالأشواك وبالعصي، ويجبرونه على الرفس، وكان يبدو لهم أن الحصان يرقص، وما أن رآهم الجبلي يستهزئون بصديقه ويعذبونه حتى استل خنجره وأجبرهم على الابتعاد، فخاف منه الشباب واعتذروا له، وبطريقة ما أفلحوا بأن جعلوه يعيد خنجره إلى جيبه، وبدأ بينهم حديث.
سأله أحد الشباب: ماذا على ظهر حصانك؟ بعنا إياه؟ 
فقال لهم الجبلي ليس عندكم من الذهب ولا من الفضة ما يكفي لشرائه.
فقال له الشاب: اذكر الثمن وسنرى.
فقال الجبلي: ليس لهذا ثمن
رد الشاب: وما هذا الشيء الذي في أكياسك ولا ثمن له؟
فقال لهم: «وطني».
ضحك الجميع، وسخروا من قوله: وطن محمول على حصان هيا أرنا وطنك.
فك الجبلي كيسه فرأى الشباب تراباً إلا أن التراب لم يكن عادياً، كان ثلاثة أرباعه من الحجارة.
وهل هذا كُل شيء.. هذا كنزك؟
فقال الجبلي: نعم هذا هو تراب جبالي، إنه صلاة أبي الأولى، ودمعة أمي الأولى، وقسمي الأول، وآخر ما خلفه جدي، وما أورثه لحفيدي.
ثم فتح الجبلي الإبريق فرأوا ماء عادياً، وربما على قدر من الملوحة.
فقالوا: إنك تنقل ماء يتعذر حتى شربه.
فأجابهم الجبلي: إنه ماء وطني، ونظر إليهم بتمعن، وأضاف: وطني يتكون من ثلاث جواهر، الأولى الأرض، والثانية البحر، والثالثة كُل ما عداهما.
سألوه: فلماذا تحمل معك كُل هذا الحمل؟
فقال الجبلي بنبرة شوق وحنين: كي يكون وطني دائماً معي. فإذا مت يرشون على قبري التراب، ويغسلونهُ بماء البحر.
هكذا تأتيني الذكريات أرتالاً، تتبع إحداها الأخرى في غربتي حتى أصبحت محاصراً بها مكبلاً بالحنين، الشوق يذبحني، وبين حنايا صدري في مثل هذا اليوم من كل عام تتصارع كلمات الحب والوفاء في صدري، وأود لو أحسن ترويضها بما يليق بكل جمال في بلادي، ها هي تتم عامها الخمسين، أعشق ذاك العرس، وأعشق احتضان ليلها المضيء بشوارعها الساكنة، وانعكاس سلاسلها المنيرة في بحرها الدافئ.
ماذا لوكنا مثل ذلك الجبلي؟ هل عشقنا لوطننا يكفيه حفنة من ترابه نحملها أينما ارتحلنا؟

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©