الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

«شلال إكسبو».. يعزف لحن الحياة

«شلال إكسبو».. يعزف لحن الحياة
21 أكتوبر 2021 07:12

هزاع أبوالريش (أبوظبي)

تشكل الشلالات في النفس البشرية، الروح الكامنة في عمق الذات، وهناك العديد من الشلالات، سواء الطبيعية أو الصناعية، عبر التاريخ لا زالت باقية في الوجدان، حيث تميزت برونقها وجاذبيتها الملهمة، مثل شلال النار بكاليفورنيا، وشلالات بليتفيتش بكرواتيا، وشلالات اجوازو الأرجنتينية، وشلال هوانغقوشو، وشلالات فيكتوريا، ومضيق ميلفورد في نيوزيلندا، وشلال بيجار في رومانيا، وشلال ديتيفوس، وشلال سيكومبول بإندونيسيا، وشلال هوكو، والكثير غيرها من الشلالات التي خلدت أسماءها على مر العصور، لما حملته في وجدان البشرية من طابع وجوديٍ ملهم، فللشلالات دور محوريٍ في تجسيد ذلك الامتداد الدنيوي العميق وتعزيز الغريزة الفطرية المتصلة بين الأطراف والبعد في التدفق والتحرك إلى اللانهاية، ليبني شعوراً يسرد سيرة الحياة على هذا الكون.

شلالات «إكسبو»
هنا الترابط الفلسفي العميق الذي يحتضن فكرة شلالات «إكسبو 2020 دبي»، الواقعة بين ساحة الوصل وحديقة اليوبيل بالمعرض، يختزل رسائل وجودية تسكن في ضمير الحياة، وفي مضمون الكون، وفي نواة البشرية منذ الأزل.. تناغم حيّوي فريد تتضمنه شلالات إكسبو تجمع في تداعياتها عناصر مثلث الحياة، الماء والأرض والنار، حيث تجعل الزائر في قلب الحدث الوجودي، وفي صلب جمالية الطبيعة وما تحتويه من معانٍ سامية للارتقاء بالروح لتبدو صافية، نقية، خالية من شوائب الأفكار المسبقة.
وترنو شلالات إكسبو إلى البعد في النظرة، والعمق بالفكرة الفلسفية التي تسهم في إعادة صياغة الروح الإنسانية المتجذرة في المكان، ولأن يكون الإنسان حاضراً في المشهد الكوني، باقياً في التفاصيل المحيطة من كل ما يدور حوله، وليكون الإنسان والحياة معاً في نفس الوتيرة، والتناغم الفطري المنسجم، عبر تداخلات إبداعية ما بين الماء والنار، والأنغام الأوركسترالية التي أبدعها الموسيقار الشهير «رامين جوادي»، لتجعل الحدث أكثر من مجرد فعالية، بل إنه تعدى ذلك لأن يكون تحفة ضميرية تسكن في داخل الزائر ليشعر أنه جزء من المكان.. وفي المكان نفسه، تحت تلك الصفائح المائية المنحدرة من الجدران العمودية يرى الزائر نفسه شاعراً بروح الحياة، وبوح الوجود بسريرة الأنفس وقريرة الفطرة.
هذا الثراء الفلسفي الوجودي الذي يتوسط شلالات إكسبو، والحلقة النارية التي تنفث ألسنتها الضخمة من اللهب الممتزج بالأحمر والأخضر والأصفر، يترك طابعاً يستلهم منه الزائر جمالية الحياة، وطبيعة المكان المفعمة بالألفة والاسترخاء والاندماج الأزلي المحمل برائحة الفلسفة الكونية، والتاريخ الإنساني التليد.

«ميسوجي» ياباني
وأنت تقف عند شلالات إكسبو دبي، تسترجع بذاكرتك فلسفات تاريخية وعقائد خالدة، كفكرة «الميسوجي» اليابانية، والتي تعتبر ممارسة شنتوية يابانية ضمن طقوس التطهير، وذلك بغسل البدن كله، كما ترتبط «الميسوجي» أيضاً بطقس تطهيري آخر يدعى «هارايه»، وبالتالي يشار إليهما بكلمة واحدة هي «ميسوجي-هارايه»، ومدى أهميتها في حياة «الشنتو» الباطنية، بما في ذلك الانضباط الروحي العائد إلى الغطس التطهري في بحر أو نهر أو «شلال». 
ويصف أستاذ الفلسفة ستيوارت د.ب. بيكن ممارسة الشنتو لطقس «ميسوجي هارايه» تحت شلال متدفق على الوجه الآتي: «إن هناك أصالة حقة في عملية الوقوف تحت شلال والانغمار في الطبيعة نفسها.. فأنت لا تعلم أين ينتهي وجودك الجسدي، وأين يبدأ تدفق الشلال.. فالطبيعة والعالم واحد في تلك اللحظة». وذكر بيكن أن ميسوجي تخلق الوعي وتشبع في الوقت ذاته نهم الجائع للشعور بالطبيعة واختبارها بأسلوب يؤكد أننا متجذرون في حياة الطبيعة وعملياتها، فنحن بوقوفنا تحت الشلال نكون جزءاً من العملية في تلك اللحظة وعنصراً يعود إلى مصدر الحياة نفسها، وهو الماء الحي.
تنعش عملية ميسوجي «الغمر بالماء» الجسد والعقل والروح، وتعزز التجدد الروحي وتهدف إلى تحقيق ممارسات «الشنتو» لإزالة شوائب الأنانية والعضوية الفيزيولوجية التي تحجب انبثاق الطبيعة الكامنة في الفرد وتألقها.

قوى سحرية
ويذكر أن النار لها مكانة مرموقة في المعتقدات الجاهلية، فيما يخص قواها السحرية، وهذا ما جعل البشرية تبحث دائماً عن الخوارق الطبيعية، وفي البحث تولد الأفكار، وتتجدد الرؤى لأن يكون الإنسان دائماً حاضراً في الوجود، وكما تقول الفلسفة قديماً، إن النار تتحكم بالصفات الأخلاقية لدى الإنسان، حيث إن الذهن الحاد ينتج عن الطبع الحار، وإذا ما عرفنا أن العناصر الأربعة في الطبيعة (النار والماء والهواء والتراب) يغلب بعضها على بعض في داخل الإنسان وتطبعه بطابعها، فكل تلك العناصر ذات اتصال كلي في الإنسان نفسه، والذي هو جزء أساسي من بيئته، فكل هذه العناصر التي استعارها الفيلسوف غاستون باشلار من أرسطو وربط بخيال متين بينها، وميّز بينها في مؤلفاته المهمة مثل: «التحليل النفسي للنار» (1937)، «الماء والأحلام» (1941)، «الهواء والرؤى»، و«التراب وأحلام الإرادة» (1947).

غموض فلسفي
تعتبر النار عنصراً مهماً من عناصر الكون، حيث تجسد نوعاً من القلق، والخوف، والإلهام الذي يجعل الكائنات في صراع دائم ما بين البقاء والفناء، فمنذ القدم، والنار تتسيد الموقف في شتى الديانات والعقائد، وتشكلت حول النار العديد من الثقافات الاجتماعية والدينية والفلسفية ومجموعة كبيرة من الخرافات والأساطير على مدار التاريخ.
وجاء «إكسبو 2020 دبي»، برؤيته الفلسفية ليستعيد الفكرة من منظور كوني متجدد في صياغة بناء الإلهام البشري، لأن يكون هذا المحفل جزءاً من العرس الإنساني البهيج، ليضع الإنسان على جادة الطريق، وفي مساره الصحيح راسماً جل التأملات التي تسهم في إعادة هيكلة روح الإنسان وضميره، الذي لابد وأن يبدو عليه ليكون قويماً سليماً متصافياً مع نفسه أولاً، ومن ثم مع الآخرين.
كل تلك التجليات لا تأتي إلا بوجود معين تنهل منه الإنسانية عذوبة المعنى، وشفافية الفكرة الجزلة، وفي قلب إكسبو، وناصية شلالاتها يرى الزائر وجوده بين عناصر الوجود الملهمة، وثلاثية الحياة المذهلة.
ولأن النار أشغلت فكر الإنسان منذ القدم في كينونتها الغامضة كمصدر من مصادر الحياة المقلقة، تأتي رسالة «إكسبو» لتضع الزائر في عالم من التأمل والتبصر في الطبيعة، والعيش في أغمار الوجود والانضواء إلى ذلك السرد التاريخي المفعم بالحياة.. أساطير وخرافات طاحنة دارت حول هذا العنصر الشرس، والعديد من الحضارات التي شكلت لديها النار حالة من الانغماس الكلي، مثل الفرس والرومان والإغريق وغيرهم ممن حملوا في معتقداتهم الحياتية والدينية والفلسفية فكرة أن النار هي مصدر بداية الحياة، ومنها الانطلاقة، لما لديها من طاقة وقوة كامنة تسكن في أحشائها الحارقة.
كل ذلك الاحتفاء والتقديس الذي توصلت إليه المجتمعات السالفة جاء من عباءة الغموض التي تحتويه النار، وما بين الغموض والدهشة هناك انصياع فطري، واتصال روحي يجمع الاثنين في النفس البشرية.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©