الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

عبر 128 قطعة فنية.. منمنات لأحلام مُدن اليابان

عبر 128 قطعة فنية.. منمنات لأحلام مُدن اليابان
18 أكتوبر 2021 01:42

نوف الموسى (دبي) 

الأشياء الصغيرة جداً، تحملُ في أعماقها اكتشافات عظيمة، قائمة على فلسفات بصرية أخاذة، وكأنها تُعلن قوتها اللانهائية في قدرتها على تشكيل الحياة، ما يجعلها تعود بنا إلى انفجار اللحظة الأولى، التي ولد منها كل شيء، ولهذا تماماً ذُهل الزوار بالمشهدية الثالثة لجناح اليابان، في «إكسبو 2020»، عندما التقوا بمنمنات لأحلام مدن اليابان، لمبتكرها ومصممها المصور الياباني تاتسويا تاناكا، من اعتاد في أعماله تحويل «البروكلي» إلى شجرة، ونبات «الذرة» إلى صاروخ فضائي، وكانت الدهشة عندما صنع حالة من المزج الساحر لرمال الصحراء وجعلها مروجاً من الثلج عبر استخدام القطعة القماشية القطنية التي يرتديها الرجال في الخليج والعالم العربي وتثبت على الرأس باستخدام «العقال»، جاعلاً مجموعة من الجمال تمشي الهُوينا على هضابها المتدرجة، هكذا وبكل بساطة، جعلنا جميعاً ننظم إلى رحلة المخيال الياباني، الذي يناقش بشكل مستمر مفهوم دمج المشترك من العناصر الغربية والعناصر اليابانية الأصلية، ويدعى بـ «Wayosecchu»، توجها حضور زهرة الـ «Myoga»، بأبعادها الثقافية في التقاليد اليابانية، خلال الاحتفاء باستقبال أفكار الزوار والجمهور في بيئة عرض ابتكارية، في أول مشهدية تعرض المسار التاريخي الثقافي لليابان، تليها ثانياً مشهدية تطور الثقافة اليابانية، وسط اهتمام متفرد من القائمين على الجناح الياباني بالربط بين «إكسبو 2020» و«إكسبو أوساكا 2025»، لذا تُرصد اهتمامات الجمهور طوال الرحلة داخل الجناح، لإنتاج حالة خاصة توثق اللحظة الحيّه الفريدة لكل شخص عبر ثقافة المحاكاة والالتقاء والتأثير، ومنها يُشارك العالم أجمع في بناء مستقبل البيئات الحيوية والطبيعية في العالم. 

كنّا نحتاج إلى الإلهام، الذي اجتاحنا عبر 128 قطعة فنية لمنمنمات تحاكي فن الـ «Mitate-e» الياباني، مشكلاً انجذاباً عالي المستوى للمشاعر، قادنا فيها تاتسويا تاناكا إلى «مسرحية التخيل»، التي يمكن للجميع أن يلعب فيها دونما تردد، بنفسه قال ذلك في لقاء سابق: «أريد الذهاب في رحلة فضائية، لكن لا يمكنني فعل ذلك حقاً، من الصعب أن تكون بطلاً وتقاتل الوحوش، ولكن إذا كنت في عوالم المنمنمات، يمكنك الذهاب إلى الفضاء وأنت في المنزل، ويمكنك حتى محاربة الوحوش، المنمنمات هي أداة تأخذنا في اتجاه مختلف عن الاستسلام، وتلبي رغباتنا وتكملها»، أي تصريح باذخ يبديه تاتسويا تاناكا، في تحقيق أحلامنا، وهو الذي يتمنى أن يحولنا في يوم ما إلى منمنات، أي أن يصمم معرضاً يُكبر فيه تلك المواد الأولية اليومية، من أطعمة واستخدامات شخصية أو أماكن ترفيه أو حتى فضاءات بحثية، وندخل نحن في عوالمها، ونصبح في وقت المعرض تلك التفاصيل الصغيرة التي لا تُرى بجدية عادةً، تخيل نفسك تقف أمام قطار الخُبز الضخم، ويتسنى لك لأول مرة أن تدخل في عمقه وتتصوره مركبة تنقلك إلى «المدينة الحلوة» المبينة من «الشوكلاته»، أو أن تستقبل الكائنات الفضائية من المكوك الفضائي المصنوع بهيئة ثمرة البرتقال، فيه نقشت بوابة المكوك من عملية إزالة عمودية فاتنة لقشرة البرتقال، أنه لأمرٌ يستجلب المتعة القصوى في تصور الحياة الحالمة بأبعاد من الفنتازيا، ذات التقدير العالي للحيثيات الدقيقة، بل هي دعوة صريحة أن يعود الجميع للبيت، ويبدوا اهتماماً مقصوداً لتفاصيلهم، تلك الأشياء الساكنة جداً على المنضدة أو الأدراج، إنها عملية إحياء نوعية لرؤية الأشياء بأبعاد جديدة، ولنبدأ بتلك الجدران البيضاء في منازلنا كما يقول تاتسويا تاناكا، التي يراها قد تكون منتجعاً ثلجياً، ولكن تبقى الفكرة بالنسبة له محدودة، إذا ما دعمت بعناصر معينة، حتى لو لم يرها الجميع، ولكنها تضفي معنى يدركه المصمم للفضاء الإبداعي. 

«المنمنات» في الجناح الياباني، تعتبر اتصالاً تاريخياً وامتداداً في مفهوم البصري، لإحدى الأدبيات في الثقافة اليابانية وهي فن «Mitate-e»، التي تستخدم التلميحات والتورية والتناقضات عبر رسومات، تميل إلى أسلوب الألغاز، غالباً ما يكون لها معان مخفية وراء التجسيد البصري، وقد استخدم في الشعر الياباني، وتعود إلى ثقافة «إيدو» الاسم القديم لمدينة طوكيو في اليابان، وتنسب للفترة المعروفة بـ «فترة إيدو» من التاريخ الياباني ويعرف فن «Mitate-e»، بأنه فرع من «الأوكييو-إي»، «Ukiyo-e» «حركة فنية تصويرية يابانية ظهرت في بداية القرن السابع عشر للميلاد، تقوم على الرسم، يتم نحت الرسومات على ألواح خشبية أولاً ثم تطبع على الورق، و«أوكي-يو إه» تعني صورة العالم العائم» ورغم أن هناك ترجمات لهذا الفن بالإنجليزية إلى كونه «صورة محاكاة ساخرة» إلا أنه في «فترة الإيدو»، يعد إبداعاً أنيقاً وله أثره في السرديات اليابانية القديمة، تجدهم استخدموا فيها صوراً ذات بعد فكري، تحمل ذوقاً فلسفياً للمتعة البصرية، يربطونها بصورة أخرى ضمن الموضوع في الصورة، ويشكلون الترابط، الذي يهدي للمشاهد فرصة إدراك المعاني المخفية واكتشافها، وبالتالي الوصول إلى لمحة فريدة من الثقافة الغنية التي يتمتع بها شعب إيدو، إنها ميزة الغموض اللاذع في التشكلات الإبداعية.

يعتقد تاتسوتا تاناكا أنه من الجيد البحث عن شيء ما يشبه شيئًا آخر وتحويله إلى شيء آخر، ولكن من الصعب شرحه، بالمقابل فإن كل شيء واضح في أعماله، حتى الأمواج الصغيرة المرادفة لسفن المصنوعة من أقلام الألوان الخشبية المرصوصة، وفوقها أشرعة من الأوراق الصفراء التي نستخدمها في كتابة الملاحظات اليومية، إلا أن الغموض في أعماله، هي الحالة المجازية في تبديل المواقع الوظيفية للأشياء، كيف يمكن أن تتحول لفائف الشوسي إلى قطارات بخارية، أو العلب المخصصة لـ «الكاتشب» إلى مدينة ملاهي، هذا التغير الوظيفي المباشر للأشياء، وتحويل قيمتها، يضفي حالة من السؤال حول وضوح الغموض في الخيال اللحظي للمشاهد، كأنها ساعة استيقاظ لعالم أوسع من الاحتمالات للبناء والتطور، وربما هذا يفسر تعبير تاتسويا تاناكا بأنه من المهم أن يكون لديك ما يبدو أنه يتبادر إلى الذهن ولا يتبادر إلى الذهن أبداً! 

انطلقت قصة شهرة تاتسوتا تاناكا، مواليد محافظة «كوماموتو» في عام 1981، عندما قام بإنشاء «Miniature Calendar» في عام 2011، وهو عبارة عن «تقويم مصغر»، استخدم فيه عناصر بديلة لإعادة إنشاء اللحظات اليومية من الحياة في اليابان بشكل مصغر، وشاركها العالم عبر استخدام تطبيق «انستغرام»، وعملها بشكل يومي، بتحديث تفاصيل متجددة ونوعية، لاقت استحساناً كبيراً من المستخدمين، نتج عنه متابعة كبيرة وصلت إلى نحو 3.3 مليون متابعة، بالإضافة إلى معرضه الفردي «MINIATURE LIFE Exhibition Tatsuya Tanaka›s World»، ونشره لمجموعة من كتب «Small Wonders - Life Portrait in Miniature»، «MINIATURE TRIP IN JAPAN»، «MINIATURE LIFE at HOME» و«MINIATURE FINAL FANTASY»، وجميعها نابعة من فكرة الاستمرارية في المُلاحظة والانتباه المستمرة، ولأنه أيضاً من الجميل التأمل في كيف تحويل المصور والكاتب تاتسوتا تاناكا الأزمات والكوارث الطبيعية التي تمر فيها اليابان إلى فرصة أكثر للتفكير والمحاولة، وحديثة عن كارثة الزلزال والأمطار الغزيرة في مدينته كوماموتو، بعملية مواصلة الإبداع، لذا تؤدي بنا أعمال تاناكا إلى الانهيار الذي يؤدي في الكثير من الأحيان إلى خسارة كبيرة في التشكلات البيئية والحياتية، والتي لها نزعتها الكامنة نحو الإبداع، وهو المسار الكوني الذي يصعب إدراكه بشكل مباشر دونما فقد جزئي للأشياء، ومحاولة إتيان لما هو مفقود، دونما تشابه تام لما سبقه، بل حالة من التطور الخاص المرتبطة بالبيئة والمكان، وفق عناصرها واحتياجاتها للنماء.

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©