الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

عيون فنية تقرأ الفلبين

عيون فنية تقرأ الفلبين
13 سبتمبر 2021 01:53

نوف الموسى (دبي) 


القدرة البديعة لتجربة إكسبو 2020، في الإمارات، أنها فُرصة فريدة لقراءة المجتمعات الثقافية، وربطها بشكل استثنائي، بالمحركات الاجتماعية واللقاءات الحضارية ذات البعد الشخصي والمتفرد للأفراد أنفسهم، من مختلف التخصصات والاهتمامات الإبداعية.


 نحن في تجربة «إكسبو دبي»، لسنا أمام اكتشاف بلدان وفضاءات معمارية عالمية فحسب، بل إننا حرفياً نُشهد العالم أجمع، على الطريقة اللافتة لكيفية بناء أنظمة مجتمعية ذات تعددية ثقافية منسجمة، تنساب بعفويتها في عمق المجتمع المحلي في دولة الإمارات، بل وتضفي حالة من ابتكار للتجربة الإنسانية الجديدة، ذات الفعل الخاص فيها، محملة بأسئلتها وتأثيراتها، كأنها تحدث لأول مرة في كل مرة، مثلما هي أعمال الفنانة الفلبينية ـ الأميركية «باسيتا أباد»  في معرض «خيّل ليّ أن الشوارع ممهدة بالذهب»، الذي انطلق عرضه مؤخراً في مركز جميل للفنون بمدينة دبي، من عاشت في نحو 6 قارات وعملت في أكثر من 52 دولة، وثقت أغلب الصحف المحلية أنه العرض الأول لها على مستوى الشرق الأوسط، ممثلاً فتح باب واسع للثقافة الفلبينية ومتغيراتها أن تأخذ حيزاً من النقاشات والتفاعلات في المجتمعات الفنية المحلية، وتلهمنا نحو التأكيد الذي أبداه المهندس المعماري رويال بينيدا، من الشركة القائمة على تصميم جناح الفلبين، في إكسبو 2020 المُستلهم من الشعاب المرجانية، والتي يُشار إليه بـ «بانغكوتا» بلغة التاغالوغ القديمة، تلك الكائنات الحيّه الصغيرة، التي تتواجد في جميع أنحاء العالم، وجميعها متصلة، مثلما هو الشعب الفلبيني. 

تجربة الفنانة باسيتا أباد، تؤكد لنا أن فضاءات إكسبو 2020، لن تكون بمثابة اكتشاف أحادي لثقافة كل دولة، بل على العكس تماماً، كيف أن كل ثقافة ساهمت بشكل ما في توجيه حضور الثقافة الموازية، ورغم الاقتناع البحثي في علوم الإنسان بأصالة المرجعية التاريخية والجغرافية في طبيعة تشكيل الهوية الثقافية للمجتمعات، إلا أن التجربة الإنسانية أثبت الحاجة الماسة للتداخل والتأثير، وكأنها الفيصل الاستثنائي للبناء والهدم نحو إحداث التطوير البشري، ما يجعلنا نذهب في رحلة نحو دراسة الرغبة الأساسية للفنانة باسيتا أباد في تعلم لخياطة والتطريز من زملائها الفنانين في الولايات المتحدة أو من نساء راباري في راجاستان، مؤسساً موضع قدم للغتها البصرية، وكيف أنها تسعى إلى مشاركة حقيقية مع الناس وتاريخهم الاجتماعي والمادي، مدفوعة بفهم ما يعنيه العيش على الهامش، سواء كان ذلك بصفتها امرأة أو امرأة ذات بشرة ملونة ومهاجرة، ما يجعلها فنانة مُلهمة في كيفية ملاحظتها واستنباطها للتقنية الخفية في الروح، مثلما تعلمت طريقة اللف وطوي أعمالها من «التربونتو» المستوحاة من «الثانغكا»، وهي لوحة على شكل لفافة تستخدم للعبادة في الديانة البوذية التبتية، تعرفت عليها خلال زيارتها لمخيم للاجئين التبت في نيبال، التي كان يقوم الرهبان بلفها ونقلها إلى الأديرة، وهي فترة لافتة قضتها الفنانة في مخيمات اللاجئين وانغماسها في مجتمع المساعدات الدولية، وذلك في ظل عمل زوجها جاك غاريتي، الخبير الاقتصادي في التنمية.

السؤال الجوهري الأكثر إلحاحاً، هو بحثنا حول كيفية اكتشاف الفلبين عبر عيون الفنانة الفلبينية باسيتا أباد، مواليد 1946، في جزيرة صغيرة شمال الفلبين تدعى «باسكو» في باتانيس بين لوزون وتايوان، متخذين من تجربتها ممراً نحو عوالم الثقافة الفلبينية من جهة، وتأثرها بالدراسة العليا في الولايات المتحدة الأميركية، بعد اهتمامها القريب بالعمل السياسي، نتيجة طبيعية كونها ولدت لأبوين شغل كلاهما عضوًا في الكونغرس في «باتانيس»، وصولاً إلى صوتها النابض في أعمالها ذات البحث المتأصل في فلكلور ثقافات الشعوب، في أفغانستان، واليمن، والسودان، ومالي، وغينيا الجديدة، وكمبوديا وإندونيسيا، وغواتيمالا والمكسيك، والهند، وتركيا، وإيران. توحي لنا الفنانة باسيتا أباد كيف نحن في طريقنا لاكتشاف الفلبين، إذا بها هي تتجه بنفسها نحو الافتنان بالأبواب المزخرفة التي رأتها في اليمن، وعمق انشغالها بالعتبة التي تفصل بين ما هو عام وخاص، وتفصل رمزياً بين ما هو روحاني وجسدي، في الثقافة العربية، أنتجت عنها سلسلة بعنوان «أبواب إلى الحياة»، بل ومسألة اقتنائها المرايا من الهند، وجمعها للأصداف والخرز والأزار من مناطق عدة في أفريقيا، نسجتها جميعها ودمجتها في قلب أقمشة تقليدية مستخدمة تقنية طورتها بنفسها تدعى بـ «التربونتو»، المأخوذة أصولها من الكلمة الإيطالية «ترابونتاري»، وهي تقنية خياطة اللحف، تركز على الحشوات والتطريز، مقدمة بذلك إيحاء استثنائياً للبعد الثالث في لوحاتها.  في أول لوحة تربونتو للفنانة باسيتا أباد، تحت عنوان «ميفيستو الأفريقي» لعام 1981، ضمن سلسلة «أقنعة وأرواح»، المعروضة في مركز جميل للفنون في دبي، ومن خلال النظرة التأملية للمنسوجات اللونية بتشكلاتها الهندسية اللا نهائية، الرفيعة منها المنسوجة على الوجه، والعريضة منها في الملابس التي ترتديها الشخصية في العمل الفني، يلاحظ المشاهد تنوعها المتعدد، خاصة في الجزء الخلفي من القماش، تتداخل فيها الخيوط، كأنها تعكس التداخل المتشابك للتاريخ البشري، بصراعاته واختلافاته وتطوره، إلا أنها حاضرة في اللوحة باتساق معاً، وهو نموذج عائد إلى فترة سفر الفنانة بين  كينيا، والسودان، ومصر، والكونغو في عام 1979، كأنها في محاولة سرد قصصي عالمي في مخيلة واحدة بديعة، خاصةً أنها استخدمت وقتها أكياس الخيش المستخدمة في نقل مساعدات الإغاثة الغذائية إلى اللاجئين، وهي تجربة ساهمت في إنشاء أسلوبها المعروف بـ «التربونتو»، يقول بيو أباد، من عمل على دعم أعمالها الفنية بعد رحيلها في عام 2004، في حديثه مع «الاتحاد» أن المثير واللافت في كل عمل فني لها، هو السرد القصصي البديع للثقافات المختلفة، ومحاولة ترجمتها لروح الكل، إنها مسيرة من حالة تعلم مستمرة من الثقافات الأخرى، كما يحدث هنا في مدينة دبي، فقد تجد الآسيويين والأفريقيين واللاتينيين، يتداخلون تاريخياً ويعيشون مع بعضهم البعض، لذا فإن حضور الفنانة الفلبينية باسيتا أباد، لأول مرة في منطقة الخليج، إنما يفتح الأبواب لاكتشاف أبعاد الفلبينيين المقيمين هنا منذ عقود، هناك قسم في المعرض بعنوان «تجربة المهاجرين» نجد فيه لوحة «الفلبينيات في هونغ كونغ» و«القرية التي أتيت منها» وغيرها، ممثلةً دعوة للحضور في مركز جميل، والمشاركة في حوارات حول موسيقية تصدح بها تلك اللوحات من مثل لوحة «الحياة على الهامش» التي تبرز تأثر الفنانة بموسيقى «البلوز»، وأقمشة الباتيك والايكات وتعرفها على فنون السكان الأصلين في أستراليا، ضمن سلسلتها الأخيرة «أحزان لا تنتهي»، التي أنتجتها أباد كرد فعل على الاضطرابات السياسية والشخصية مثل هجمات 11 سبتمبر في مدينة نيويورك والحرب التي أعقبت ذلك في أفغانستان، فضلاً عن تشخيص إصابتها بسرطان الرئة الذي جعلها غير قادرة على السفر، اضطرت على أثرها البقاء في الاستوديو الخاص بها في سنغافورة.

اكتشاف الثقافات
سيبقى سؤال لماذا فنانة فلبينية، تبحث في فنون إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية وأوقيانوسيا، مهماً لإثراء تجربة اكتشاف ثقافات العالم، طرحته «الاتحاد» على زوجها جاك غاريتي، من قدم وصفاً بديعاً لمسيرة حركتهما خلال الرحلات المختلفة، التي ذهبت الفنانة باسيتا أباد لاكتشافها في اليمن مثلاً، زارت الفنانة صنعاء وتعز وعدن والحديدة وغيرها من المدن، وبدأت تطرح الأسئلة حول ثقافتها الشعبية، يقول جاك كيف إن العديد من الفنانين، سواء في الدول المتقدمة أو في دول العالم الثالث، يريدون الذهاب إلى لندن، وألمانيا، وباريس، ونيويورك، لإثراء مشاريعهم الفنية، إلا أن باسيتا أباد اختارت تاريخاً وطريقاً مختلفاً لتعبره، متذكراً آخر ما قالته قبل وفاتها، بأنها تشعر بقرب رحيلها، ولكنها أرادت أن يؤكد لها بأن تبقى أعمالها حيّة، وفعلياً هذا ما حدث، هنا في مركز جميل، وفي مدينة دبي، يشارك الجميع استشعرانا، لافتاً لحضورها عبر أعمالها الفنية العابرة لقصص الثقافات المختلفة في العالم. 

منارات
في جزيرة بلدة باسكو في باتانيس، حيثما ولدت الفنانة باسيتا أباد، توجد عدة منارات، بينهما منارة معروفة يطلقون عليها منارة «باسكو»، والتي توفر منظراً للجزيرة بأكملها، ضمن إطلالة طبيعية، أُدرجت ضمن القائمة المؤقتة لمواقع التراث العالمي التابعة لليونسكو، والتي توحي بشعور استثنائي للدور الذي تقوم به الفنانة باسيتا، في كونها منارة لثقافات العالم في نسيجها الإبداعي، الكامن في الجوهر الأساسي من التجربة الثقافية في إكسبو 2020، في دولة الإمارات.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©