الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

«العَلَم».. رمزية الزمان والمكان

«العَلَم».. رمزية الزمان والمكان
3 نوفمبر 2020 03:22

إبراهيم الملا

«العَلَم» - بفتح العين واللام - كلمة تشير إلى الإعلام والأخبار والإشهار، والعلم بمنطوقه الصامت - إذا صحّ الوصف - يختزن رصيداً هائلاً من مرويات التاريخ، وتحولات الجغرافيا، وسيرورة الزمن، وتطوّر الأحداث، كما أن العَلَم بماهيته ورمزيته، لا ينحصر تعريفه وتعيينه في بنيته الشكلية المكثّفة فقط، بل يمتّد معناه وتتوزع دلالاته على آفاق وطنية وإنسانية لا تشي بالعزلة والانفصال، بقدر ما تنتمي للهوية والاتصال، فالعلم رمز لهوية جامعة في منطقة محددة لها دستورها وقوانينها وعاداتها الاجتماعية المتقاربة، وقيمها الثقافية المتداخلة، ورغم ذلك فإن أغلب هذه «الأعلام» أو «الرايات» لا تنتصر للانكفاء الحضاري أو الانزواء المعرفي، بل تؤكّد على الثراء والتنوع والتميّز، وتمنح البعد الإنساني ما يستحقه من تعارف وتعاون في مجالات شتى وحقول متعددة، فالخصوصية الساكنة في رمزية العلم، هي خصوصية متحركة أيضاً لأنها تسافر عبر الزمان والمكان، وتجعل من هوية الأوطان مساحة خصبة لتبادل الرؤى والخبرات والعلوم والتشريعات.
ومن هنا أيضاً يمكن أن نرفع مفهوم العلم إلى مقام افتراضي يتجاوز علوه المكانيّ، وهذا السموّ الذي يمتلكه العلم شكلاً ومضموناً، إنما ينبع من قيمته الوطنية بشقيها التجريدي والتجسيمي، فهو ليس مجرّد راية ترفرف في الأعالي، بقدر ما هو تفسير جامح وموجّه نحو الارتباط الجسدي والروحي، وهو تأويل مسدّد أيضاً لاستنباط جوهر الانتماء وأصل الحنين ومنبع الذاكرة.

قاموس سري
يكشف العَلَم بألوانه وتقسيماته وأطره الهندسية والتصميمية عن قاموسه السري ومعجمه الخفي دون لبس أو مواربة، وهو يترجم لغته الرمزية بأريحية بالغة للجموع، متتبّعاً المسار «الكرونولوجي» للزمن، ومختصراً ما يمكن أن نسميه الامتداد الشاسع للكلمات والمعاني والغايات، آنفاً وحاضراً ومستقبلاً. انتقلت ماهية «العَلَم» من حيزها الفئوي المرتبط بفئة خاصة، وجماعة معيّنة، عاشت وتقاربت في ظروف محدّدة، إلى فضاء شمولي لأوطان وشعوب، رأت في «العَلَم» صدى وانعكاساً لإنجازاتها وواقعها وطموحها، ووجدت فيه تمثيلاً صارخاً لتضحياتها وصبرها وتحدّياتها، في الحرب والسلم، والاستعمار والاستقلال، والاضمحلال والازدهار، ضمن مسيرة طويلة من الانكسارات والانتصارات، والخيبات والأفراح، والقهر والحريّة.

تعددت الأسماء
من التعريفات الشائعة عن العَلَم أنه شيء ينصب في الفلوات يستدلّ به التائهون، أو ما بني في جوار الطرق ليشير إلى أرض بعينها، والعَلَم أيضاً رسم الثوب، والراية التي يجتمع عليها الجند، أو ما يعقد على الرمح. واللواء راية الحرب ومن أسماء العلم الأخرى: الدِّرَفْسُ، وهو العلم الكبير، والسنجق والمُطارِد والعقاب والرفرف والخفّاق، ويرمز كل منها إلى شيء مختلف، و«الرنك» أو الشعار هو العلامة في الحرب والسفر والإمارة. أما العلامة والسمة والوسام فما وسم به من ضروب الصور.
وينتمي العلم لما يسمى منهجياً بالفيكسولوجي المأخوذ من الكلمة اللاتينية «فيكسيلوم» بمعنى عَلَم أو راية، وهذا المنهج فرع من «الغرافيك الإيحائي» أو النقوش الرمزية ولا يزال هذا المنهج يخضع للبحث العلمي الموسع كبقية الفروع الأخرى مثل الشعارات والأختام وغيرها. لم يكن التعاطي مع الأعلام والرايات محصوراً بالعصر الحديث، حيث يمتدّ استثمار رمزية العلم إلى عهود بشرية سحيقة، عندما كان الإنسان البدائي يغرس راية بعلامات معينة قبل انطلاقه للصيد في المراعي والأماكن الصعبة، وبذلك تستدل عليه جماعته وتنتظره عند مكان الراية، وتذهب للبحث عنه، إذا طال غيابه وسط تلك البراري الموحشة. وتطور استخدام الأعلام والرايات في ساحات الحروب، وفي خضم البحار والمحيطات، ففي الحروب كان الجنود يستدلّون بقائدهم من خلال الراية المميزة بلون أو علامة أو منحوتة أو رسمة معيّنة، وإذا بقت الراية مرتفعة ففي ذلك إشارة إلى تواصل المقاومة واستمرار النصر، وإذا سقطت راية القائد دلّ ذلك على إصابته أو موته، ما يشي بفأل سيئ وهزيمة مرتقبة، والراية كما قال ابن حجر العسقلاني: «هو اللواء الذي في الحرب، يعرف به موضع صاحب الجيش، وقد يحمله أمير الجيش، وقد يدفعه لمقدم العسكر»، واستخدم العرب في الجاهلية رايات وألوية مختلفة الأشكال والألوان يربطونها على رماحهم ويحملها فارس وسط المقاتلين، وكانوا يسمون راية الحرب لواءً، وهي شقة ثوب تلوى وتشد إلى عود الرمح، فلا تنشر إلا عند الحاجة، وقد يعبر عن بعضها بالعصائب «جمع عصابة» لأنها تعصب على رأس الرمح من أعلاه.

 هويّة السفن
أما في البحار والمحيطات، فكان للعَلَم دور مهم في تحديد هويّة السفن والمراكب الشراعية والقوارب الكبيرة وغيرها من وسائل النقل البحرية، ويتضمن العلم في تلك الأقاصي الزرقاء البعيدة والمجهولة، لغة تعريفية بطاقم السفينة وبنوايا ربّانها، وكانت بمثابة إعلان أو ملصق يخبر الغرباء عن نوعية السفن ومصدرها ووجهتها، اعتماداً على معلومات سابقة مدوّنة في الخرائط البحرية القديمة، ويصف الكاتب «بريدراك ماتفجيفتش» في كتابه «تراتيل متوسطة» الحافل بقراءات معمقة وتفصيلية لثقافة البحر الأبيض المتوسط، أنه وقبل ظهور الأعلام والرايات على صواري السفن، كان الربابنة يعتمدون على النقوش الموحية والمعبّرة عن هوية هذه السفن وطبيعة ركابها وطاقمها، حيث كان الحرفيون ينحتون على صدر السفينة وواجهاتها الأمامية صوراً غريبة ومجسمات متنوعة تتراوح بين «التنين، الوحش، حورية البحر، قدّيس، تماثيل وشعارات دينية»، وتحمل من مكان لآخر تسمية الحيزوم أو المنحوتات الغامضة والأخرى الساخرة، وفي النصوص الفرنسية القديمة تحمل صور الثعابين، وأثناء العواصف يخفي البحّارة هذه الرسوم بقناع أو غطاء من أجل حفظها من الأمواج والرياح، أما القراصنة فلم يكونوا يكشفون هذه الرسوم والمنحوتات إلّا لأتباعهم أو ضحاياهم!
وانتقلت هذه الرسوم لاحقاً إلى الرايات البحرية، وبقي بعضها حاضراً في أعلام الدول الحديثة، كرموز وطنية لها ثقلها التاريخي والثقافي، لتعكس محطات مهمة صنعت هوية وفكر هذه الدول؛ لأنها ارتبطت بالذاكرة الجمعية لشعوبها، وصارت شعاراً يقتدى به، وقيمة ذاتية يفتخر بها، وكان القرن السادس عشر هو القرن الذي ظهرت فيها الأعلام القومية بمفهومها العصري.
وتشير المعلومات التاريخية إلى أن المراكب المصرية القديمة التي كانت تبحر في النيل وتجوب السواحل القريبة قبل أربعة آلاف عام كانت تحمل علامات تدل على تبعيتها، وكانت العلامة تتألف من عمود خشبي يرتكز على قمته شعار طوطمي محفور في الخشب يمثل طائر أبي منجل ويرمز إلى مقاطعة «إيبس» وتحت الشعار كان يعقد شريط قماشي للتزيين، وقد عثر على رايات شبيهة بذلك في حضارات الرافدين وبلاد الشام، وهي ترمز إلى السلطة والغزو، والشعار في رأس الصاري أو السارية يرمز إلى القوة السحرية والميثولوجية.
وقد ظلت الشعارات تعلو الصواري حتى العصور الحديثة بعد أن استبدلت الشرائط القماشية برايات وأعلام رسمية معترف بها دوليّاً، وصار يمكن تتبع التطور السياسي والقومي للدول على مرّ السنين قياساً لطبيعة ونوعية أعلامها.

«البيرق» و«البيرقدار»
يحمل العلم أشكالاً وتصاوير وأصنافاً متنوعة، فالعلم الصغير يسمى: «البيرق» وحامله كان يسمّى «البيرقدار»، أما العلم الكبير فيسمى لدى بعض الشعوب «البنديرة»، وارتبط هذا الاسم بروّاد البحر في منطقة الخليج، وأصله مشتقّ من الكلمة البرتغالية «Banderia»، ويبدو أن هذا الاسم انتشر في المنطقة أثناء غزو البرتغاليين لها، واحتلالهم لأهم موانئها منذ بدايات القرن السادس عشر.
وكانت «البنديرة» تستخدم في أسفار الغوص بحثاً عن اللؤلؤ في أعماق الخليج العربي، وتعطى لسفينة من السفن يكون ربّانها من ذوي الخبرة، حيث يتسابق الربابنة على تسلم «البنديرة»؛ لأنها تمثّل رمز القيادة في البحر.
يشعّ الفضاء الدلالي «للعلم» بما يمكن أن نطلق عليه الكرنفال البصري، فلكل لون وشكل وفراغ وتصميم يحتويه، هناك إشارة وقصة وحكاية ومرجع، ويشكّل العلم أرشيفاً جيوسياسياً للدول، حيث تضيق العبارة ويتّسع المعنى، ويزدحم القول الواحد ويتوزع التفسير المتعدّد، فاللون الأحمر في العلم مثلاً يشير إلى الاندفاع والقوة والحماسة والتضحية، وهو لون جامع لكل الألوان، وتنصهر فيه كل الأطياف، بينما يشير اللون الأخضر في العلم إلى الازدهار والديمومة والنماء والتفاؤل بالمستقبل، أما اللون الأسود فيدل على تخطّي الصعاب والقدرة على مواجهة العقبات المادية والأخرى المعنوية، ويذهب تفسير اللون الأبيض على قماشة العلم إلى القيم الإنسانية السويّة المتعلّقة بالمحبة والتعايش والسلام.
ويمكن أن نكثّف مفهوم «العَلَم» في زمننا الراهن بأنه اسم عام يطلق على كل شكل أو طراز يمثّل الحدود الجغرافية والممتلكات الشرعية لبلد ما، والعلم الوطني في العرف الدبلوماسي هو رمز الدولة وعنوان سيادتها وكرامتها، ويتضمن ألواناً وشارات معينة ومحددة بموجب قانون أو مرسوم تشريعي خاص.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©