الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أدب ما وراء الجائحة

أدب ما وراء الجائحة
11 يونيو 2020 08:15

الإنسان وليد التاريخ، وهو شجرة مدت جذورها في أعماق تاريخها، تتغذى منه دائماً وحتى لحظة الممات، وهو خاضع بذلك لحركة التاريخ ومتأثر بها دائماً، بل هو نتاج لها، وضميره خصيصة من خصائص الروح المتحضرة، ولعل المنظور التصوري لمدارك التاريخ يعد من القضايا التي تحرك دلالة الأحداث، وحين نجد اليوم استدعاء لأحداث مشابهة لما يطرأ على عالم اليوم، فما هو إلا استخدام للتاريخ بوصفه أداة من أدوات إسقاط تلك الأحداث، بتفاصيلها ومجرياتها، على الأحداث المعاصرة والراهنة، ولذلك فإن سرد تلك الوقائع التاريخية يكون في الغالب على شكل اجترائي وانتقائي يرنو إلى تحقيق غايات فكرية والبحث عن مساحات للخلاص.

الفلسفة «الرواقية» تنظر إلى الكون بأسره جوهراً واحداً، وطبيعة واحدة، وكأن اليوم وبفعل الجائحة التي فرضت نوعاً ما هذه الرؤية الفلسفية، على الأقل، من باب مواجهة الخطر في سبيل حفظ الحياة، إلا أنه في ذات الوقت أعلن البعض عن موقفه من خلال قاعدته الاجتماعية ومنهج استقبال ما يجتاح البشرية اليوم، قائلاً: إنني متدين، أو علماني، أو أعتنق أيديولوجيةً، أو أرتبط بقطب كذا أو جناح كذا، في حين أن البعض لم يجد الفرصة لاختيار قالب من هذه القوالب الموجودة، سواء كانت للدفاع عن الدين، أو رفضه وممارسة الفكر، أو اعتناق نظرية من النظريات المولودة من رحم الثقافة التاريخية، التي يرجع إليها سبق اختراع الذات بالصورة البعيدة عن الحقيقة، ومع تداخل المفاهيم وتضارب المصالح، باتت تدفع الإنسان إلى طرح السؤال عن العلل التي أصبحت تتحكم في الوجود بمعزل عن التفسير العقلي، نظير ما تفرضه الأحداث من عبثية، ومهما حاول المرء أن يستوضح علات واقع الحال، يجد نفسه متجاوزاً، إدراكاً وتخيلاً، ما يجري من أحداث تخطف الواقع إلى ما فوق الواقع وتجاوزته.

قوة الوعي
إن وعي الجائحة أطلق شرارة في معظم المجتمعات الإنسانية بحيث صار كل فرد «برومثيوس»، الذي كان يقبس النار الإلهية، ويأتي بها إلى أرضه، ويوصلها إلى قومه فيهتك أستار الظلمة، ويبدد برودة الشتاء. فالوعي يحدث قوة معنوية تفعل فعل سحر مثير للدهشة، فتقضي على القوالب العتيقة، وهي تجربة تجتاح المجتمعات بعد كل حرب، لتنتشل المجتمعات من اليأس لتظهر مجتمعات جديدة بعده بجلد جديد وفكر جديد، وهي بذلك تقوم بعملين في آن واحد (الخدمة والإصلاح).
 وحين نقول حرباً، فمن منظور أن الموت هو العدو الأول للإنسان، وفي حياته التاريخية والشخصية فإن العدو هو الوجه الأول للموت، وإن العقائد والمدن فضاءات للحجز، وليس هذا الإغلاق مع ذلك عقابياً، بل وقائياً، وهو واقعة من وقائع الدفاع المشروع، وإن كانت غاية الحي أن يحيا، ومن المؤكد أن الحرب ليست غائية المجتمعات. وإن الأدب ما هو إلا تعبير سيمائي بمستوى مختلف عن اللغة، وحين تحدث الأدب عن الموت والحياة كوشيجة، أو لتداخلهما متعدد الصور، فنجد أن هناك أدباً يقوم على محاورة الموتى مع الأحياء، وفي المتخيل الأخروي كثير من الأعمال الأدبية، وفي الحياة الجديدة التي يحياها بطل العمل بعد خروجه من الحياة، لنجد وجوهاً عديدة باحتمالات لانهائية لهذا السريان، ومن الطبيعي سنجد حضوراً لجائحة العشرين «كورونا» في الأعمال الأدبية القادمة وكذلك الفكرية، وإلا سيكون أدبنا مبتوراً عن واقع الحياة، فالعلاقة بين الأدب والحياة لا تقبل الاستسهال ولا تحتمل الاختزال، ذلك أن العلاقة لا تحدد تصور الأدب بربطها باللانهائي وحسب، بل تستدعي ظل الموت، حيث يغدو محدداً للحياة التي يهبها الأدب، ومن ثم فإن العلاقة بين الحياة والموت في الأدب لا تبنى دوماً على التقابل. 
في الحروب السياسية قد تسقط قعقعة السلاح من وقت لآخر، أما العقائد فتبقى منتصبة، وهنا أمام الجائحة اختلفت المعايير، فلا نجزم السقوط أو النهوض إلا لمن يؤمن بحق البشرية في الحياة. وربما يكون الخوف أول درس تعلمه الإنسان – كما يقول المفكر د. عبدالله الغذامي - والدليل على ذلك أهم مكتشفات الإنسان هي تلك التي تتعامل مع الخوف، فتم اكتشاف الأسطورة بوصفها سلاحاً لمواجهة المجهول، وصنع آلهة لكل أمر يتفوق على قدرات الإنسان الحسية أو المعنوية، إله الموت وإله النار وإله البراكين، إلى أن تراجعت الأسطورة مع نشوء الدين وظهور العلم - وهنا نجد توافقاً بين الدين والعلموية -إلا أن الخوف يظل قائماً بوصفه خاصية فردانية وبوصفه نسقاً ثقافياً، ويظل الإنسان كائناً متخوفاً بالشرط النسقي للخوف، ولو انتقلنا إلى العلم لوجدنا الخوف يلاحق كل أمر علمي، ما جعله يخترع الحرب لتكون أخطر أدوات مواجهة الخوف، ومع الزمن تعلم الإنسان أن يترجم مخاوفه إلى صيغ ثقافية، كحيلة لإخفاء العجز وأقنعة لإحالة العثرات لأسباب خارجية - وقد تكون أحياناً في محلها – وهي ذات الأسطورة الذاتية التي تنسب الحوادث لقوى خارقة، وحين نستدعي الأسطورة فإننا نقدم، سواء في الأدب أو الفكر أو التعاطي الاجتماعي، نصوصاً موازية للحدث الراهن، لغاية تتلمس سياقات التقاطع بينها وبين الحدث، فالأسطورة تحمل في تقاطيعها تجارب إنسانية، والتجربة الإنسانية متكررة ومتعددة، وفي استدعائها كذلك أمنيات بتغيير واقع مؤلم، وهي كذلك تختلف عن التاريخ بأنها تحمل عمقاً فلسفياً واسعاً، وذلك لتداخل الخيال الإنساني الرحب فيها، لتشترك مع الأجناس الفلسفية المتخيلة، كالخرافة واللامنطق واللامعقول.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©