الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

عبدالله بن ذيبان.. شاعر الأطلال

عبدالله بن ذيبان.. شاعر الأطلال
17 أكتوبر 2020 00:30

إبراهيم الملا

مرحبا بطارش نباكم               عدّ قولي وأرتيكم
دوم وعيوني جداكم             لا ولا قلبي نسيكم
طحت طيحه في هواكم      يالغضي وألعى عليكم
سعد من نال وجناكم              او غدا جنّه صبيكم

في قصيدته الشهيرة «مرحبا بطارش نباكم»، لا يترك الشاعر الكبير عبدالله بن ذيبان أي فراغ محتمل قد يشغلنا عن تفاصيل الوله، ولا يسرّب أي انتباه يتعدّى حدود الشوق، أنه مكتمل بالحضور، وحاضر بالاكتمال، فلا فسخة ولا هامش ولا غفلة يمكن أن تعطّل حواسّه الموجّهة حصراً نحو المحبوب، ونحو ما يُفضي لتقصّي أحواله وأخباره، إنه هنا يرحّب بمندوب العشق، أو «الطارش» الحامل للنبأ المنتظر، إنه متلهّف ويرتجي سماع ردات الفعل التي أبداها المحبوب بعد سماع قصيدته، وسريعاً ما ينتقل الشاعر من حاسة السمع ولهفة الإنصات للخبر، إلى حاسة أخرى أكثر إحاطة ومعاينة ورصداً لما يجري من تحوّلات وتغيّرات في الطرف الآخر، إنها حاسة «النظر» الشاهدة على الأحداث والكاشفة لحجب الظن والتوهّم «دوم وعيني جداكم»، فليس من رأى مثل من سمع، ثم ها هو الشاعر يستعين بقلبه ليربط الحاسّتين معاً ليستخلص الجوهر من المظهر، مثل النار التي تفصل الذهب الخالص عن شوائبه، وتنقّيه من الزوائد النافرة والمعادن الرخيصة، وبالتالي فإن الظفر بهذا المحبوب الشبيه بالذهب المصفّى، هو ظفر يجلب السعد ويريح البال، ويحيل نار الشوق إلى هدأة وارفة وظلٍ مديد، ومقام عالٍ لا يدانيه ولا يجاريه أي مقامٍ آخر.

  • حاكم الشارقة يكرّم الشاعر عبدالله بن ذيبان في الدورة السابعة من مهرجان الشارقة للشعر الشعبي (أرشيفية)
    حاكم الشارقة يكرّم الشاعر عبدالله بن ذيبان في الدورة السابعة من مهرجان الشارقة للشعر الشعبي (أرشيفية)

يُكمل ابن ذيبان قصيدته التي أدّاها المطرب القدير ميحد حمد، وما زال لها وقعُ بهيّ في الذاكرة الجمعية لأبناء الإمارات، المفتونين بالماضي وتجليّاته، قائلاً:

بي ظما وشوقٍ لماكم /‏‏‏ لو رشا بَوْرِد طِويكم
ليتني غيمة بسماكم /‏‏‏ دوم بمطر في حويكم
بروي الأرض وفلاكم /‏‏‏ لا ولا أبا الشمس تيكم
ان هويتوا لي هواكم /‏‏‏ انعتوني وين أيكم
قبل اولّي في هواكم /‏‏‏ ما خطا قلبي رميكم.

يغرف ابن ذيبان هنا من ماء الوجد كي يفيض به على المعنى، ويروي به قلبه الذابل، فالظمأ المحتلّ لجسده لا يستنزف الحلول البديلة للوصل، بل هو المنفذ والوسيلة ليتحول العاشق نفسه إلى «حبل الرشا» كي يرد بئر الحب، ويقترب من منبع الماء، ومعترك التجربة، يتمنى الشاعر هنا أن يتحول أيضاً إلى غيمة، لا تهطل سوى في «حوي» المحبوب، أي وسط منزله، فكل البيوتات الأخرى، وكل الخلق الآخرين، هم في عين الشاعر مجرّد هوامش ضبابية، وأطياف عابرة، يتمثّل مركزها الأكيد وتتشكل بؤرتها الواضحة في معيّة الحبيب وحده، فهو المبتدأ وهو المنتهي، وهو المنطلق وهو الغاية، وأنانية العاشق هنا لا بد أن تكون مشفوعة بعذر قوي ودليل قاطع، هذا العذر يورده الشاعر في ختام القصيدة، مشيراً إلى أنه مسيّر لا مخيّر، وأن بوصلة قلبه طغت على كل الجهات، وأنسته حتى حواسّه الأخرى، فهو المغيّب عن الدنيا والخلق، وهو الحاضر دوماً في سطوع الهوى، والمقيم أبداً في انكشاف الرؤى، والمُساق حتماً وبجنوح مُفرط نحو المحبوب وداره والتفاصيل المحيطة به، ولا شيء يشغله أو يعوّضه أو يغنيه عن ذلك.
وُلد الشاعر عبدالله بن ديبان الشامسي في إمارة الشارقة عام 1945م، واصطدم باليتم قبل أن تتفتّح حواسّه على الدنيا، حيث توفى والده قبل ولادة شاعرنا بأشهر قليلة، وفي الثامنة من عمره فقد ابن ذيبان شقيقه الأكبر، وتكالب عليه هذا الفقد حتى ضاقت به المسالك كلها، وهو ما زال طفلاً غضّاً، تحاصره الأحزان من كل الجهات، ولكن انتقاله بعد ذلك إلى دبي خفّف من آلامه المبكّرة، كما أن رعاية أخواله له في دبي، عوّضته عن الأسى والخسران وتلف الذكرى، وربما كانت لتجربة الطفولة المرّة أثر في ولادة موهبته الشعرية، ورغبته في البوح عمّا يعتمل في داخله، فكانت القصيدة النبطية، هي المنصّة التعبيرية الأهم في تجربته الحياتية والإبداعية، وكانت هي العزاء والسلوى لتجاوز كل الخسارات السابقة.

كتب ابن ذيبان قصيدته الأولى في العام 1968م، وكان متهيّباً ومتردداً في البداية، ولكن مشاركاته الكثيرة في مجالس الرجال، منحته الدفعة المعنوية، لإكمال مهمته الشعرية، وإنضاجها على مهل، أما اللحظة الفارقة التي أسسّت لحضوره الشعري الطاغي بعد ذلك، فتمثّلت في تعرفه على شعراء أكبر منه سنّا وتجربة، والذين استطاع أن يجاريهم لاحقاً، ويكوّن معهم صحبة وثيقة ومديدة، شعراء مثل: محمد الكوس، وراشد بن طنّاف، وعلي بن رحمة الشامسي، وغيرهم، كما أن وفرة الشعراء في عائلته، ومشاركاته العديدة في البرامج والأمسيات الشعرية، ساهمتا بقوة في تغذية حسّه الإبداعي، وتعزيز قدرته على الخوض في الأغراض الشعرية المتنوعة، مثل الغزل والمديح والمساجلات والقصائد الوطنية والاجتماعية، وتميّز ابن ذيبان عن غيره من الشعراء بجاذبية سبكه، وعفويه طرحه، ونقله لتفاصيل الماضي بدقة، ومقارنتها بتحولات الحاضر، متّبعاً خطّاً نقدياً لاذعاً لمراجعة النتائج السلبية لهذه التحولات، كي لا تتفشّى وتنتشر وتهدم ما بناه الآباء والأجداد من قيم أصيلة تحافظ على تماسك المجتمع وتحميه من الظواهر المقلقة والعادات الدخيلة، وفي ذلك يقول ابن ذيبان:

«جار الزمان وضاع من فيه
عادي غدا لي كان منقود
ويلي على الماضي وطاريه
فيه العرب ما تصبح ارقود
واليوم يارك ما تلاجيه
ما بك درى إن طحت ميهود
كل غدا لنفسه معانيه
بيته خِلِيّ لو ميلسه عود
وَثّق على بابه مزاليه
ركّب جرس عن كلمة «الهود»
جليل من سنعه مساعيه
باقي على مسيار الجدود».

يقارن ابن ذيبان هنا بين «السنع» والعادات التي خبرها الناس في الماضي، وبين التغيّرات العنيفة الحاصلة في المنظومة الاجتماعية اليوم، مشيراً إلى أن هذه التغيّرات باتت مخيفة، فما كان محلّ نقد ولوم واستهجان في السابق، أصبح اليوم أمراً عادياً ومقبولاً، مستفيضاً في شرح وإبانة مواطن الخلل، فالجار لم يعد مهتماً بجاره، والناس منشغله بنفسها، والأبواب صارت مؤصدة، والأنفس صارت مغلقة، متحسراً على طغيان الظواهر السلبية، وأن القليل فقط هم الذين باتوا صامدين أمام هذا الانحراف الكبير للقيم، والتبدّل المقلق للمعايير الروحية والأخلاقية، «جليل من سنعه مساعيه /‏‏‏ باقي على مسيار الجدود»، يصف الشاعر ابن ذيبان في هذا البيت وبدقة الغربة الوجودية التي بات يستشعرها بقوة، والتي أراد أن يجاريها بقوة شعرية ونقدية أخرى توازيها وتدفعها وتمنعها من الاستشراء والتحول إلى أمر واقع، يصعب استئصاله لاحقاً إذا لم يجد من يجابهه ويفكّك ويفنّد خطابه التغريبي.

تكريم
تقديراً لمكانته الشعرية، كرم صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة الشاعر عبدالله بن ذيبان في الدورة السابعة من مهرجان الشارقة للشعر الشعبي. 
وينحت الشاعر عبدالله بن ذيبان بإزميله الشعري المرهف فيما يمكن أن نسمّيه: «كتلة الحنين»، ليحيل الشكل الغامض والمنسيّ لهواجسنا المتوارية، إلى تقاسيم مألوفة توقظ براءتنا، وإلى ملمح معلوم يعيد لنا البهجة اللصيقة بطفولتنا، وباكتشافاتنا الأولى لجماليات الطبيعة، وألفة المكان.

ولع بالتوثيق
من الميزات الفارقة في تجربة الشاعر عبدالله بن ذيبان، ولعه بالتوثيق، وتسجيله المفعم بالإجلال والمحبة لتفاصيل الطبيعة والبيئة والمعمار والحيثيات الاجتماعية، ذلك حتى لا يجرفها النسيان، ولا تغيب عن ذاكرة الأجيال، احتفظ ابن ذيبان في قصائده بالكثير من الصور والمشاهد والأماكن التي تحتلّ موقعاً أثيراً في أذهان وقلوب المعاصرين لفترة ما قبل التسعينيات من القرن الماضي، وفي المقاطع الشعرية التالية يوثق ابن ذيبان لأهم الأبراج التراثية في الشارقة، والتي كان لها حضور كبير في الذكرة الشعبية، خصوصاً في فترة الخمسينيات وما بعدها، قبل أن يختفي أغلبها، ولعل قصائد ابن ذيبان هذه كان لها دور مهم في ترميم عدد من هذه الأبراج والاعتناء بها وإعادتها لهيبتها السابقة، يقول ابن ذيبان عن برج «بودانق» في الشارقة:

دمع عيني سال وتْهرّق
ع التراث اللي تمنّيته
اختفى «بودانق» ودنّق
للزمان اللي محى صيته
وين ذاك الحبل لمعلّق
وين ذاك الحصن لي ريته
راح وطره والدهر فرّق
واقطعوه الحارس وبيته»

وقال عن برج «الفلج» بالشارقة:
برج «الفلي» و«اليازره» وين؟
لي ينطرا وغربيه «سمنان»
لوّل نحيده ينبخص زين
ينشاف من «ديره» و«عجمان»
سرت آتخبر لوليّين
حصن «الفلي» له شيّ عنوان؟
قالوا: نعم لكنه الحين
ضايع غدا داسه البنيان»

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©