الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

د. عبدالله الغذامي يكتب: صورة الحداثي الصعلوك

د. عبدالله الغذامي
24 سبتمبر 2022 01:20

لم يكن ظهور الحداثي العربي هيناً، خاصة في صورته الشعرية، وقد تشكل للشاعر العربي صور عديدة تكونت على مدى قرون من الشعرية العربية، حيث برز «الشاعر الفحل» الذي تصفه كلمات الخليل بأن الشعراء أمراء الكلام، وإمارة الكلام تقتضي الهيمنة على صناعة معاني الثقافة لغةً، فقولهم حجة لغوية ونحوية وصرفية ودلالية، ومن ثم يقودون اللغة عبر المجاز وإنْ جعلوا الحق باطلاً، والباطل حقاً، فهذا وجه لإمارتهم على اللغة، وقد سلمت الثقافة لهم بهذه المزية وانتشرت كتب تشيد بطبقة الشعراء وتقاسموا الطبقية تدرجاً للأعلى فالأعلى طبقياً حتى بلغ الأمر درجة أن عداوة الشعراء بئس المقتنى حسب كلمة المتنبي، وهذه هي صورة الشاعر تراثياً وثقافياً، إلى أن جاء الشاعر الحداثي ليكسر هذه الصورة وبرزت صورة الإنسان الواقعي أو الصعلوك الحداثي، ولعل قصيدة صلاح عبد الصبور التي عنونها بالحزين هي واحدة من أدق الصور التي هشمت صورة الفحل الشعري وحولته من الأمير الثقافي صاحب السطوة الذي إذا هجا الشريف دمره وإذا مدح الوضيع رفعه، فيأتي عبد الصبور ليصور شخصية الشاعر الحزين، ويقول فيها:

يا صاحبي إني حزين
طلع الصباح، فما ابتسمت، ولم ينر وجهي الصباح
وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح
وغمست في ماء القناعة خبز أيامي الكفاف
ورجعت بعد الظهر في جيبي قروشْ
 فشربت شاياً في الطريق
ورتقت نعلي

وهذه قصيدة تقلب المعادلة الشعرية التي ترجمها المتنبي بكلمته:

الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم

ولكن هذا النموذج الشعري يتحطم لدى صلاح عبد الصبور الذي ترجل عن صهوة الخيل والليل ليمتطي نعله المرتوق ويتخلى عن الخيل والسيف والرمح والبيداء ويكتفي من بيت المتنبي بالقرطاس والقلم، وهنا يهدم بيت الفحولة فيخرج عن قلعة الفحولة ليكتشف حزنه ووجع روحه وتتكشف له ظلمة الصباح، ذاك الصباح الذي فقد نوره وعجز أن يضيء وجه الشاعر وليس له غير حزنه وكل مبتغاه أن يجد الرزق المتاح، وليس بأن يمدح، فيأتيه العطاء أو يهجو فيرعب فضاء الثقافة، ولكن كل ما يتمناه هو أن يجد قروشاً في جيبه ليرتق نعله، ذاك النعل البديل عن خيول المتنبي، وأن يشرب شاياً على قارعة الطريق، ويظل في حزنه ليغرس في ماء القناعة خبز أيامه الكفاف، ولن تعرفه الخيل ولا السيف، ولكن سيعرفه القرطاس والقلم ولولاهما ما عرفنا قصة هذا الفحل المنكسر على قارعة الطريق، حيث انحنى على نعله، والنعل هو حصانه الذي يحتاجه لإعادة التأهيل لكي يحميه من وعثاء الدرب، وهنا يأتي نموذج الحداثي الناسخ لصورة الفحل لغةً من حيث استخدام مفردات الشارع التي سيراها الفحل سوقيةً ولا تليق بفحولة الشعر، كما ينسخ صورة الأمير الثقافي «أمراء الكلام» ليحل محلها «الحزين» الذي ليس له غير الكفاف، والليل الذي يعرف المتنبي لم يخلفه سوى صباح وصفه عبد الصبور بهذه الكلمات «طلع الصباح، فما ابتسمت، ولم ينر وجهي الصباح»، وهذه واحدة من الصور الشعرية الحداثية التي كسرت عمود الشعر ونظامه الهرمي ليس في الأوزان فحسب بل أيضاً في صورة الشاعر نفسه وصيغه اللغوية والمفاهيمية.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©