الإثنين 20 مارس 2023 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
ثقافة

«علم الآثار».. يُلهم فرص «الاستدامة»

«علم الآثار».. يُلهم فرص «الاستدامة»
5 أكتوبر 2021 00:38

نوف الموسى (دبي) 

السؤال عن الأسباب الجوهرية لمشاركة كل دولة أفريقية بجناحها الخاص، وللمرة الأولى في تاريخ «إكسبو» الممتد منذ 170 عاماً، هو المرتكز الأساسي لدراسة أثر المخزون الحضاري والتاريخي والإنساني، إلى جانب الإرث الثقافي الأفريقي، في كونه ركيزة لبناء المستقبل القادم، فلا يُمكن بشكل من الأشكال، إحداث انفصال ولو جزئياً بين المكون الأساسي للحياة البشرية الأولى وبين حاضرها التقني، ومستقبلها المتماهي بين الطبيعة الأم ومخرجات التكنولوجيا، لذلك فإن الهدف الاستثنائي لهذا الحدث العالمي بدولة الإمارات، وسط تحديات ومتغيرات مناخية وجغرافية وتاريخية ومعرفية، إنما هو فُرصة لإعادة اكتشاف بدائية الاتصال بين الكائنات الطبيعية، وتأثير محيطها في تطويرها وتحسين قدرتها على العيش، وتحويل تلك الاكتشافات إلى رؤى تفاعلية مدعومة بتجربة إنسانية متكاملة ذات جودة حياة عالية، لذا، فإن حضور «أفريقيا»، في المنظومة الإبداعية والابتكارية لـ«إكسبو 2020»، يُعد مثابة منصة علمية، تتداول فيها البلدان من مختلف قارات العالم، غزارة الموروث الأفريقي، باعتباره فضاءات إلهام واسعة للمستقبل.

نتخيل مثلاً كيف يحظى الزوار في «إكسبو 2020»، بمشاهدة نسخة مطابقة للأصل، للأحفورة «لوسي»، في الجناح الإثيوبي، المنتمية لما يطلق عليه بـ «سترالوبيثيكوس الأفريقي»، وهو أول نوع من القردة التي يتم تصنيفها على أنها من «أشباه البشر»، ووفق المكتشفين تم وضع التصنيف في عام 1924، حيث يعود تاريخ «لوسي» إلى 3.2 مليون سنة، ما يجعلنا جميعاً نتساءل عن العلاقة بين علم الآثار والأحافير والأنثروبولوجيا الحيويّة والأنثروبولوجيا الثقافيّة في إلهامنا نحو فرص «الاستدامة» في «إكسبو 2020»، خاصةً أن علم الآثار يناقش بعداً مهماً في محور «الاستدامة» وهي أشكال تطور الحياة الطبيعية على الأرض واستمرارية إبداع الإنسان في بناء أنظمة التكيف.
يرتبط اكتشاف «لوسي» بـ «علم مستحاثات البشر»، وهو «فرع من علم الآثار مع التركيز على البشر، الهادف لفهم التطوّر المبكّر للإنسان العاقل تشريحيّاً، وهي عمليّة تعرف باسم «الأنسنة»، من خلال إعادة بناء خطوط القرابة التطوريّة داخل فصيلة القردة العليا، والاستعانة بالأدلّة البيولوجيّة (مثل بقايا الهيكل العظمي المتحجّرة وشظايا العظام وآثار الأقدام) والأدلّة الثقافيّة مثل (الأدوات الحجريّة والتحف وأماكن التوطين)».

الموروث نتاج البيئة 
انطلاقاً من فكرة أن الموروث، في كل دولة العالم، جاء نتاج البيئة المحيطة للإنسان، والطبيعة الجغرافية والمناخية، جزء من تشكيل الحياة في المجتمعات البشرية، بدءاً من الأطعمة، مروراً بالنسيج والملابس، وصولاً إلى الرقصات والأغنيات الشعبية، وهي ما تحدد جذر «الهوية»، الذي يعطي لكل المجتمعات خصائصها ومميزتها وتفردها، وتحديداً يعزز قيمة الإبداع والخلق نحو تكاملها مع الطبيعة الأم، التي كانت ولا تزال المصدر الملهم الأول للإنسان على هذه الأرض، ما يجعلنا نتفق أن التمعن في رؤية «لوسي» وقراءة أبعاد حضورها في «إكسبو 2020»، يفتح آفاقاً جديدة تدعم مسيرة الإنسان نحو التطور، مثلما هو على سبيل المثال، التفكير بـ التابوت الفرعوني الأثري، الحاضر في الجناح المصري، في «إكسبو 2020»، ومفهوم الأبدية وحماية الجسد، الذي يشغل حالياً أهم المختبرات البحثية في العالم، ومسألة تمديد عمر الإنسان، فهو بالتأكيد عملية تاريخية، تدعم الرغبة الدفينة للإنسان نحو البقاء والخلود، وعملياً لا يمكن الفصل بين المختبر العلمي وطقوس الدفن في مصر القديمة، في التاريخ القديم والحديث.

جماليات القصة
من بين جماليات قصة اكتشاف الأحفورة «لوسي»، في وادي «الأواش» بإقليم «عفار» في إثيوبيا، بحسب «المتحف الوطني لإثيوبيا»، أنها أظهرت نفسها لمكتشفها العالم الأميركي دونالد جوهانسون، الذي أخذ يومها مع زملائه سيارة لاند روفر، لرسم خريطة بحثية لمنطقة أخرى، وبعد صباح طويل حار من رسم الخرائط والمسح بحثاً عن الأحافير، قرروا العودة، واقترح يوهانسون وقتها اتخاذ طريق بديل، من خلال أخدود قريب، وبينما هم يتحركون، رأى جوهانسون عظم الزند الأيمن (عظم الساعد)، وسرعان ما حدده على أنه من «أسلاف الإنسان» أو ما يطلق عليه بـ «أشباه البشر»، بعد ذلك بوقت قصير، رأى عظماً قذالياً (جمجمة)، ثم عظم الفخذ، وبعض الأضلاع، وحوضاً، وفكاً سفلياً. وبعد أسبوعين، وعدة ساعات من التنقيب والفرز، تم انتشال عدة مئات من شظايا العظام، والتي تمثل 40 في المائة من هيكل عظمي واحد من أشباه البشر. طريقة الاكتشاف بحد ذاتها تهدينا أبعاد الاتصال بين الإنسان والحياة البرية، دائماً تقترح الطبيعة للإنسان مسارات لاكتشافها، وهنا نقطة مفصلية في أن سمة الاستدامة تقوم على إتاحة فرصة كاملة للطبيعة في التعبير عن نفسها.

فريق الاكتشاف
حصلت لوسي على اسمها، إبان مشهد من الاحتفالات والإثارة عاشها فريق الاكتشاف والمنقبين وقتها، لاكتشاف نوعي لما بدا وكأنه هيكل عظمي كامل إلى حد ما، حيث تم تشغيل أغنية فرقة البيتلز الشهيرة «Lucy in the Sky withDiamonds» مراراً وتكراراً، على جهاز تسجيل تابع للمنقبين في المخيم، ما جعلهم يطلقون على الحفرية اسم «لوسي»، تيمناً بحضور الاسم في الأغنية، وفعلياً فإن التسمية المعروفة للأحفورة، وربطها بفرقة موسيقية بريطانية، تطرح أسئلة في التداخل والتمازج الثقافي المذهل، الذي يقدمه علم الآثار في العصر الحديث. أما في موطنها الأم إثيوبيا، فإنهم يطلقون عليها «دنكنش»؛ أي الجميلة المذهلة الرائعة. صنف دونالد جوهانسون «لوسي» على أنها من أسلاف البشر، من خلال مجموعة من الخصائص التي تحددهم كمجموعة، أكثر هذه السمات وضوحاً هي «الحركة على قدمين»، أو «المشي منتصباً».

المشي على قدمين
تم التعرف على أن «لوسي» تمشي منتصبة من خلال عظامها المليئة بالأدلة، التي تشير بوضوح إلى المشي على قدمين، فمثلاً يظهر عظم الفخذ عدة سمات فريدة للمشي على قدمين، يكون فيها العمود مائلاً بالنسبة لأسطح مفصل الركبة، مما يسمح للقدمين بالتوازن على ساق واحدة في كل مرة أثناء الحركة. وهناك أيضاً شفة بارزة في الرضفة، لمنع الرضفة (غطاء الركبة) من الخلع بسبب هذه الزاوية، يظهر الحوض عدداً من التكيفات مع المشي على قدمين، وقد تمت إعادة تشكيل الهيكل بأكمله ليتلاءم مع الوضع القائم، والحاجة إلى موازنة الجذع على طرف واحد فقط مع كل خطوة، كما تظهر الفقرات دليلاً على انحناءات العمود الفقري التي يستلزمها وضع قائم دائم.

موت «لوسي»
لا يوجد دليل قاطع على كيفية موت «لوسي»، ومع ذلك، كشف البحث من جامعة تكساس عن أن كسور الهيكل العظمي في كاحليها وركبتيها ووركها وكتفها وتأثيرات العظام قد تكون سبباً لموتها. وتعود طبيعة تلك الكسور المرتبطة طبياً بكسور الهيكل العظمي التي تحدث عندما يلمس شخص الأرض من ارتفاع 14 متراً، وهناك عدة مؤشرات تعطي فكرة عادلة عن عمرها، فقد اندلعت أضراسها الثالثة (ضرس العقل) وتآكلت قليلاً، مما يشير إلى أنها كانت بالغة تماماً، وكانت جميع أطراف عظامها قد اندمجت وانغلقت خيوطها القحفية، مما يشير إلى اكتمال نمو الهيكل العظمي، تظهر على فقراتها علامات مرض تنكسي، لكن هذا لا يرتبط دائماً بالشيخوخة. كل هذه المؤشرات، عند أخذها معاً، تشير إلى أنها كانت شابة، لكنها ناضجة تماماً، عندما ماتت، ويعتقد العلماء أنه من الممكن أن يبلغ طولها حوالي 110 سم، ووزنها حوالي 27 إلى 29 كجم.

معطيات علمية
في الجناح الإثيوبي تتوافر فرصة لمشاهدة الأحفورة «لوسي»، وتخيل تلك المعطيات العلمية وفق علم الآثار والحفريات، تتموضع «لوسي» في بداية مدخل الجناح، في صندوق زجاجي، يسمح بمشاهدة التفاصيل، وينال الزائر أثناء الجولة شرحاً مبسطاً لكل قطعة مكتشفة من عظام لوسي، ويتصور مدى التطور الذي أحدثته الطبيعة الأم، في أجساد الكائنات الحيّه بما يتناسب مع قدرتها على البقاء، وكيف حولت الحياة، من العيش من أجل البقاء، إلى مستوى أعلى بحضور الإنسان الذي استخدم قدرته على التميز لإحداث حالة من الإبداع، كأنه صوت الطبيعة بلغاتها وتناقضاتها وقوتها بين عمليات البناء والهدم والتوسع.

جميع الحقوق محفوظة لصحيفة الاتحاد 2023©