أهزّ شجرة العمر هزّاً، ولا يتساقط من أغصانها سوى ورق الذكريات الحزينة. أما ذكريات الفرح، تلك التي تمرُّ خطفاً وفي لمح البصر، فلا يمكن تدوينها على الورق. لأنها تصبح مجرد ذبذبات وخفقات سريعة تذوب في القلب ولا يدومُ سوى عبيرها.
أهزُّ عمود الإنارة الوحيد في قريتنا البعيدة، أهزُّه هزّاً عنيفاً بكلتا اليدين. أخضُّ جذعه الحديدي المستقيم، وأركل قاعدته الأسمنتية، لعله مرة واحدة فقط، يضيء ليلنا الطويل.
أشد الحبل من جهة اقتداري، ويشدّه خصمي من جهة انحداره. والمرأة التي نصّبناها حكماً بيننا، تركتنا هكذا متعادلين في عشقها، وذهبت لتتزوج الرجل الذي يملكُ السفينة والحبل والمرساة.
أبدّدُ فكرة أن يهزمني الموت، بأن أظل منتمياً إلى حالة المرح العالي، والاحتفال بالحياة والأشياء الصغيرة والتفاصيل المدهشة. وكنتُ قد فطنتُ إلى منهج المحبة، وأقصد محبة الذات ومحبة الآخرين أيضاً، واتخذت ذلك درباً، لكنه لم يكن كافياً، إذ توجب عليّ أن أدفع الروح كي تتخلص من كل هذا، لتصير حرّة خارج شروط الحب وقوانينه السامية. 
أدرك اليوم، وبيقين شبه تام، أن المحبة وحدها لا تكفي، وأن الوصول إلى حالة الشغف العظيم في حب الحياة، يبدأ من اتخاذ المرح بها منهجاً، ثم الارتقاء منه إلى مراتب النشوة العظمى والذوبان الأبدي في النور.
أحاولُ ألف مرة أن أفك لغز الوجود الذي استعصى على الفلاسفة، لكن لغزاً بسيطاً مثل (من جاء أولاً البيضة أم الدجاجة؟) يجرّني للوقوع في خدعة العقل الذي يبحث عن إجاباته في الأشكال الظاهرة. وهو هنا لا يرى أن الدجاجة هي نفسها البيضة، ولا يستطيع أن يفرّق بين السحابة والمطر النازل منها. ولو قيل له إن الشجرة هي الأم الأولى للحياة، وإن الزمن غير موجود في الأصل، وإن الحرية المطلقة طعمٌ لم يذقه أحد. ستراه ينطفئ من تلقاء نفسه، وسترى صاحبه ينتمي إلى سدنة الوهم، وحرّاس الخرافة الذين يعضّون على أقلام البلاستيك، ويشربون حبر سمومها.
أمدُّ رقبتي بين قضبان بوابات الحديد لأرى ما يوجدُ داخل البيوت الفارهة، فهل أنا سجينٌ خارجها؟ أمدُّ ساقي.. أدلّيها في النهر، هل تصيرُ أصابع قدمي طعماً للتماسيح؟ وحين أمد قلمي، وأضعه في يد رجلٍ يبحثُ عن سكينٍ، هل تكون قصيدتي قد اكتملت؟ وهل يحق لي بعدها أن أصف الحقيقة بأنها: التفاحة التي لم تُقضمُ بعد؟