الوصول إلى فهم طبيعة الشعر محضُ وهمٍ، حتى وإن ادّعى النقّاد تمكنهم من تحليل مغزى الشاعر وشرح طبيعة النص ومراميه. ذلك أن القصيدة ليست فقط حمّالة أوجه كونها نصاً، وإنما هي أيضاً فعلُ هدمٍ يراد منه البناء. وهذه معضلة فلسفية تختص فقط بطبيعة ونوع الإبداع الشعري العالي الذي يكون جوهره الظاهر هو التعبير عن حالة ما، بلغةٍ ما. لكن الحقيقة العميقة التي يبطنها الشاعر تأتي أولاً في قدرته على هدم السياقات الجاهزة التي تخدّر العقل وتبث روح النمطية في التفكير والتناول. والشاعر الحقيقي لا يقبل أن يقدم نفسه ناسخاً لأفكار من سبقوه، أو مجرد تابعٍ للسليقة التي كُتب الشعرُ عليها، وإنما يذهبُ عميقاً لاكتشاف الطرق الجديدة في التعبير والصياغة والاجتراح.
هناك شعراء بالآلاف، مهنتهم الوحيدة هي التكرار واستدعاء النمط القديم، ومحاولة تقليده والنسج على منواله، لكن بالمقابل هناك قلة قليلة تحاول أن تحفر خارج ما هو عادي، وأن تجرّب وتغامر وتبحث عن بعدٍ لغوي وفلسفي وجمالي مختلف وجديد. وهؤلاء يكونُ أول صدامٍ لهم مع المحافظين على أفكار الخوف من التغيير. لمسنا في جميع الحركات الأدبية التي نادت بالتحديث وبتطوير النص، أنها وقعت في مواجهة عنيفة مع دعاة التقليد، وبالأخص في المجتمعات التي لا تزال منفصمة بين تاريخها الكلاسيكي التقليدي، ورؤيتها الحديثة إلى العالم، حيث نرى مظاهر المدنية تطالُ كل شيء، إلا الشعر، لا يريدون له أن يتغير أو يُمس وكأنه الكنز الذي لا ينبغي لأحد قط يخالف ما فيه.
يواجه العقل العربي اليوم أزمات فكرية مرحلية حاسمة، فنحنُ من جهة نسبحُ في خضم متغيرات العالم ومؤثرات التكنولوجيا من حولنا. على سبيل المثال، تغيرت رؤيتنا للوحة الفنية، وصرنا نقبل برؤى التجريد والمفاهيمية والأعمال التركيبية وغيرها، لكن بالمقابل لا تزال القصيدة الجديدة التي حاولت الفكاك من شكلها التقليدي الصارم، وأقصد هنا شكلها فقط وليس جوهرها، تواجه جيوشاً من المنادين بضرورة الإبقاء على الشكل التقليدي، لماذا؟ لأن التغيير في طرق التعبير هو في المحصلة سيؤدي إلى تغيير في المفهوم، وطريقة المخاطبة والتفكير.
مع ذلك، ها هي القصيدة الجديدة المختلفة تتقدم في كل الاتجاهات، وتكتبها أجيال اليوم باقتناع واتفاق ورضا، ويبدو أن النقد الأدبي العربي بكل توجهاته الحديثة يحاول تقديم قراءة عصرية لهذه النصوص وتطوير خطابه في أفقها.