أقطن حالياً في بناية سكنية، تطل شرفتي في الطابق التاسع على شرفات لبنايات أخرى أقل ارتفاعاً، عن نفسي أجد متعة بلا حدود مع هذه الإطلالات. ولمن لا يعرفون تلك المتعة ممن يسكنون المنازل الأرضية أخبرهم أن هذه السكنات في الشرفة، وخصوصاً مع الطقس اللطيف، تجعلك تعيش عالماً مختلفاً يمكن للخيال أن يحقق لك فيها حياة بلا ملل، وخصوصاً مع استعدادك للتنازل عن خصوصيتك، فأنت أيضاً معرض لفضولهم! تتقارب بعض الشرفات وخصوصاً تلك التي تتمكن من مشاهدتها من موقع علوي فرصة للعيش مع أصحاب المنزل تقريباً، إذ يمكنك مشاهدة تحركهم اليومي في صالة منزلهم، وخصوصاً إذا كانت لها شرفة، فما بالك بوضوح ما يمكن مشاهدته في الشرفة ذاتها!
تأمل أحوال الناس فرصة توفرها هذه الإطلالات الحقيقية، لا تشبه تلك الإطلالات التي تصلنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو من مكان عام. هنا يعيشون الحقيقة بفرحها وترحها، بصخبها وصمتها، وخصوصاً بصمتها، ذلك الحال المهيب الذي يجعل صاحبه يخرج إلى الشرفة ليتأمل اللا شيء، ويفكر في كل شيء. هنا يشتغل خيالي فأفكر بفضول الكاتب، ماذا يؤرق بال ذلك الفتى المراهق، لماذا هذا الشرود الممزوج بالحزن، من أعرفهم في مثل سنه وجوههم تمتلئ بلاهة وهي ثابتة على شاشات هواتفهم! وأنتِ يا سيدتي ما أجمل ذلك السكون الذي يملؤك وقد جلستِ على كرسيك الوثير بالألحفة، تبدين كأنك تمثال صنع منذ ألف سنة لا يتخلله إلا حركة يد من وقت لآخر تهشين بها على وجهك الممتلئ بخطوط كتبت حكايا الأولاد والأحفاد. حيوات كثيرة تعيشها مع جيران قد لا تلتقيهم أبدأ في طريق، ولكنها تنسيك حياتك بأكملها في ساعة صمت تعيشها متأملًا أحوالهم الصامتة!
مراد بطل قصة «المنتقب» في مجموعة قصصية لطيفة تحمل عنوان (رجال وهلافيت) للكاتب إبراهيم شلبي، حوت 11 عنواناً، تفاوتت مشاعري خلالها بين الفرح والحزن والعجب والغضب والدهشة والتعاطف والشماتة وحرت بين ترديد الحمد أو الحوقلة، في أحد سطور تلك القصة، يغادر مراد فراشه ويصنع لنفسه كوب قهوة ويجلس في شرفة منزله شارداً لوقت طويل، وخلال ذلك يضع خطة جهنمية لإحداث بلبلة، آملًا في إشعال ثورة فكرية بين الشباب لكي يفيقوا -حسب رأيه- ويتوقفوا عن الأنانية! كانت خطته بمثابة تعويذة تفتح أبواب جهنم بأكملها، لن أفسد القصة لمن يريد قراءة المجموعة ولكني توقفت وتذكرت تصوراتي البريئة الحالمة لأولئك الذين يقفون سارحين حالمين في شرفاتهم.. فالحقيقة تقول إن لبعض أحلامهم طعم الكوابيس!