رحلة شهر العسل سواء قضيتها على بساط الريح متنقلاً من مدينة إلى أخرى أو جرّتك جزيرة بعيدة لها، وقالت لك: اكتف بيّ! أو انتقيت لتعب أقدامك مدناً تاريخية، المهم أن لا تجعل من صور «الألبوم» الأول الذي عادة ما يخصص لشهر العسل في حياة أي زوجين فيه صور  لعيون باكية أو جبين مقطب أو أي ذكرى غير فرحة يمكن أن توحي به صورة لكما كزوجين قررا أن تكون تلك الرحلة عنوانها السعادة.. والسعادة فقط.
بعد أن قضينا أسبوعاً لا ينسى في اليونان بين آثارها القديمة وبلداتها التي نسيها التاريخ، وبين جزرها التي تشعرك وحدها أن اليونان ما زالت حيّة، ولم تندثر كغبار في صفحات الأيام والتاريخ، منها توجهنا إلى مدريد التي هي ملعب «سهيلة» الحقيقي، وتأخرت أنا خطوة إلى الوراء، فهي تتقن الإسبانية كأي قشتالية، وأنا إسبانيتي خجولة، بالكاد تكفيني تبيّتني ليلة في مدريد مع طلب أكل وشرب، فهي ما زالت تحبو، فتركت لها مقود إدارة دفة رحلة إسبانيا، ولكن فاجأتها بالإقامة في فندق «ريتز» التاريخي الذي تحيط به المتاحف وساحات مدريد، فهي تعشق المباني القديمة ذات الطابع الكلاسيكي، في حين تشكل لي بعض الضيق، وتشعرني بذاك الخمول الشتوي، كنا يومياً نتوجه لمدينة صباحاً، ولا نعود إلا مع آخر قطار يصل مدريد ليلاً، في هذه الرحلة من شهر العسل شعرت أنني حققت لها أمنية أن تجوس في أرجاء إسبانيا، وتعرف الأشياء بملامستها باليد، لا من خلال قراءات، وحب عن بُعد، ومقررات في كتب جامعية للأدب الإسباني، تذوقت كل الأطعمة التي تعرفها مصورة في كتاب، جُلنا في كل مدن إسبانيا، وادخرت رحلة الأندلس والجنوب للآخر، لأنني كنت أعرف رقة قلبها، ودموعها الجاهزة، وذاك الحنين الذي يجذبها للتاريخ العربي الأندلسي، وحدث ما توقعت حيث دخلت في رحلة الندم والحسرة التاريخية منذ إن أطلق زفرته الأخيرة على جسر الحسرات «عبدالله الصغير، ابن عائشة الحرّة» التي علقت نصيحتها في عنقه، وتركته يغيب في زرقة البحور: 
«ابكِ مثل النساء اليوم ملكاً مضاعاً، لم تحافظ عليه كالرجال».
لم تنته فجيعة سهيلة إلا بمغادرة مطار «باراخاس»، ولكن تكبدت فجيعة أخرى، فقد نسيت كاميرتها في سيارة المطار أو على مقعد من مقاعد المطار أو في الفندق، وفيها كل ذكريات تلك الرحلة، ولولا ذخيرتي الكاملة من تلك الصور في كاميراتي، لطلبت مني رحلة أخرى شبيهة برحلة شهر العسل في إسبانيا.
ما كان أي شيء ليبرد جوف «سهيلة»، ولا أي مدينة يمكن أن تجعلها تنسى وجع إسبانيا غير باريس، خاصة وهي ملعبها الثاني، حيث تتقدمني في اللغة الفرنسية بخطوة واسعة إلى الأمام، خاصة إذا ما حذفنا كل تلك الكلمات التي تقال في الشارع، والتي تعلمتها دونما أي استعمال، لأنها خارجة عن حدود الأدب الذي أحبه، ولا تصلح لي بتاتاً، -وول بتاتاً هذه الكلمة من زمان ما أحد استعملها- فكانت المتعة الثانية لها في رحلة العمر حيث رأت باريس بعيوني، لكنها كانت وجلة، خاصة حين أتكلم عن الأماكن والأزقة والمطاعم والمقاهي الثقافية بذلك الحب الغامر، فتخبئها في نفسها تلك الغيرة التي يبدو أنها ستكبر مع باريس، ومن باريس، لكني مع ذلك كنت مرشداً سياحياً مخلصاً، وهي انطلقت فرحة متذكرة كل ما قرأته عن الأمكنة في الروايات الفرنسية، وما درسته عن الحضارة والحياة الفرنسية، وما تمثله باريس من عطر وزي وموائد ورقي في حياتها، ضمنا فيها فندق «سانت ريجيس» الحميم مثل منزل عائلي.
ودعت باريس بحزن واضح، لم تستطع هولندا بكل ألقها واختلاف رونقها، وأشيائها المدهشة، وفندقها التاريخي الذي سكنا، والذي تقلبت به أحوال الدنيا حين كان سجناً أو ملجأ يوماً، ثم داراً موسيقية ثم مصرفاً مركزياً، وأخيراً فندقاً راقياً،  الرحلات النهرية والأجبان الهولندية وقاعات ومتاحف الفنون وبيوت الرسامين، كل تلك الأشياء لم تنسها لحظات من الفرح الطفولي، ومسك ليالي باريس، ونهارات كان فيها التعب والمرح وملامسة الأشياء، وتأسيس لذكريات ستبقى مع الأيام، وربما سردتها لأولئك الآتين من رحم الغيب، يوماً ما!