تتعدد السفرات، وتكثر الرحلات، وتتباين البلدان، لكن تلك السفرة الأولى والجديدة مختلفة بكل مقاييسها، رحلة تدشين ذلك الرابط المقدس، وهي تجربة أولى لطائر كان دوماً يعشق الحوم والهوم لوحده، ليس هناك إلا الريح تزاغي أجنحته البعيدة عنه، وهو الآن مكبلٌ في قفصه الذهبي باختياره، رحلة شهر العسل لعلها من أجمل رحلات العمر، وأمتع الأسفار، لأن كلا الطرفين مقرران أن لا شيء غير الفرح والضحك وقليل من التجمل في هذه الرحلة التي يمكن ألا تنسى على مدى العمر، رحلة شهر العسل تلك، يحاول الزوج الجديد أن يجتهد فيها، ويظهر كل محاسنه مرة واحدة، لكسب ود الآخر، ومحاولة فرض السيطرة الأولى، وإبداء هيبة قد تكون ناقصة، وتثبيت الأكتاف قانونياً، بعدها كل شيء يهون، ولو لم تمش أنت على الصراط المستقيم كما تود الزوجة دائماً، وربما تتغير كما تشتهي إرادة الحياة، وربما تتعطل الحياة الزوجية ويظهر وجهها الأغبر إذا دخلت فيها أمور المحاسبة وإعداد الميزانية ومصاريف منظورة وغير منظورة، تغيب لغة الحروف في البيت لتحضر لغة الأرقام.
كان خط رحلتنا أنا وسهيلة في شهرنا «العسل» اليونان، إسبانيا، فرنسا وهولندا، في تلك البداية التي يفترض أن تكون جميلة بالمطلق، لا بد للإنسان المتزوج العاقل ألا يشكو من حقيبة عروسه الثقيلة، لأنه من الضروري إثبات قوته ومتانة جسده، ولكي يبرر لها أن مسألة الطحن في الوجبات الثلاث تؤتي أُكلها، وتمنيت في داخلي، بدعاء كاد يستجلب الدمع ألا تطرأ على بالها وضعية البطل في الأفلام حين يحمل زوجته في ليلة زفافها بين يديه، خاصة وأنها لا تعرف الحِيل والخدع السينمائية، بحيث البطل في الفيلم حتى عرقه تمسحه فتاة «المكياج»، ولا يقدر أن يرفع عمره، وقد كنت شغوفاً في ريعان شبابي بتلك اللقطة السينمائية التي تدغدغ عواطف المراهقين، فيفرحون بحركة الرفع والخطف تلك، ويتمنون لو كانوا بدلاً من البطل حينها، لكن مرة جربتها مع واحدة من وزن الرافعات الثقيلة، فكادت أن تتسبب لي بعاهة قصر دائم، وتدفن نصفي في الأرض، فحاولت أن أشغل بالها، بفتح الأبواب لها، وتقديمها أولاً على طريقة «الجنتلمان» الإنجليزي: «ليدز فيرست»، والفطور إذا أرادته كسولاً، أحضرته لسريرها، كنت حريصاً على أن أنام نومة الذئب العطش بعين واحدة، لكي لا تسمعني وأنا أتضارب مع خلق الله في الأحلام أو تسمع نخرة طويلة على البحر الكامل مع الحركة الرابعة لـ«بيتهوفن»، أو أهذي بأسماء نساء كن مزهرات في محطات العمر، ربما مرد ذلك الحرص لكي تمر إجازة شهر العسل بسلام، وإذا ما قفلنا راجعين إلى الديار، فلتنزل «زيران» أسيادها من رأسها.
أمضينا أياماً جميلة في أثينا والجزر اليونانية، بحيث لم تسمع مني إلا كلمة «غناتي وحياتي ونظر عيني والغالية»، وكل مسميات عطور «أجمل»، حتى تيقنت أنها تكاد تقول: «لقد فزت بفارس أحلامي»، وأنا أجرّ عليها «مواويل يا ليل وعتابا»، في اليونان كنت أنا السيد المتبصر العارف، وكانت هي أشد ما عليها الأسماء اليونانية الموغلة في التاريخ والقِدَم، وأنا أعزف وأغرف لها من الأساطير اليونانية والمسرح الإغريقي، وحكم من أقوال فلاسفة اليونانيين، وهي مستمعة ومندهشة من ثقافة لا تعرفها، وربما لم تحبها، وكل ليلة عشاء فاخر في باخرة أو مطعم بحري عتيق، وأجمل الليالي حين تربعت على شرفة لا تتسع إلا لرأسين، فوق جبل في فندق «سانت ريجيس» بحيث يمكنك أن تعد بيوت أثينا، وتتلو صلواتك نحو معبد المدينة العالية «أكروبوليس»، ليلتها شعرت أن سهيلة ستغدو زوجة صالحة، وصابرة محتسبة لرجل يشك في استقامته دوماً، وقلبه أخضر على الدوام.. وغداً نكمل.