الأمثال العربية القديمة والتي انتقلت إلى اللهجات العامية فيما بعد أو نشأت من بيئات محلية وغذت المخزون الفصيح، لا يهم، المهم أنها قيلت وسرت بين الناس في جهاتهم الأربع، الأمثال هي جمل قصيرة لكنها بليغة، وأحياناً موجعة، من بين تلك الأمثال، مثل «ما يعرف كوعه من بوعه»، وهو فصيح قديم، وهو باقٍ ما بقي مدّعو الفهم والعلم، وما برح حاطب ليل أو حاطب ظلماء، وما زال هناك من لا يفرّق بين الحنين والرغاء، وما كان هناك من يهرف بما لا يعرف، لا شيء جامع دامغ لمثل أولئك البشر مثل هذا المثل «لا يعرف كوعه من بوعه»، وهو مثل فيه اللغز والامتحان، ويعتقد الجميع أنهم يعرفون موضعي الكوع والبوع، ولا يسألون عنهما، باعتبارهما تحصيل حاصل، ومن المعارف العامة السهلة، ولكن إن فاجأت أحدهم ليدلك على الكوع والبوع، فسيفغر فاه، ويفرد يديه، ويحاول أن يجيب، لأنه من المعيب ألا يعرف مثل هذا السؤال البسيط والمعلوم من الجميع ضمناً، والبعض سيجتهد ويجادل دون علم ولا كتاب مبين، وأكاد أقول جازماً إنك لو سألت عشرة آلاف عربي، فلن تجد إجابة صحيحة من عشرة أنفار، بمن فيهم مدرسو اللغة العربية الجدد.
لم أجد قصة هذا المثل في كتب الأمثال، وأعتقد أن من وضعه أحد فقهاء اللغة أو النحويين، لأن الجدل بينهما كان وما زال كبيراً وكثيراً، وكل واحد منهم كان يحاول أن يجهل الآخر، فلجأوا إلى الكوع والبوع وهي نقاط صغيرة في مفاصل الإنسان، ولا أحد يدري أين مواضعهما، فالكوع في حقيقة مفهومه اللغوي، هو عظْمة في اليد تلي الإبهام، ويسمّى أيضاً بالزند، ولا يخصه بكلمة الزند العامية التي تعني عضلة اليد العلوية، ولا جماعة «أبو زند»، أما البوع فهي عظمة تلي إبهام القدم، ولا يخصها باليد كما يعتقد الكثير من الناس، وهناك شيء بينهما، ومرات يربطونه بمثل «ما يعرف كوعه من كرسوعه» في بعض البلدان العربية، والكرسوع هو طرف الزند الذي يلي الخنصر، وهو العظم الناتئ عند الرسغ، وفي حديث ابن عمر، رضي الله عنهما: بعث به أبوه إِلى خيبرَ وقاسمهم الثمرةَ، فَسَحَرُوه، فتَكَوَّعَتْ أَصابِعُه، أَي تَعْوَجَّت يدُه من قِبَلِ الكوع.
هناك أمور كثيرة نعتقد أنها معروفة وسهلة ولكنها تقف عظمة في الحلق، وتفاجئنا أننا لا نعرفها ونجهل مواقعها، ورغم ذلك نكيل الفتاوى ونجتهد بالاجتهادات ونقول أشياء، وبعدها نظهر لا نعرف كوعنا من بوعنا!.