الجميع كاد أن يوقن أن الحرب الباردة بين البلدان المرشحة للتصادم وخلق الأزمات السياسية والاقتصادية قد انتهت بذوبان الجليد الروسي، واستفراد الولايات المتحدة بقطبية العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك جمهورياته المترامية الأطراف، لكن الحرب الباردة قد تغيرت وأعادت تشكلها بصور مختلفة، كان رأس الحربة فيها التطور التقني والهجوم السيبراني المحتمل والمعطل لكل مفاصل الحياة في أي بلد، وقبل أن تبدأ الحرب الروسية الأوكرانية كانت كل المعلومات المختصة بالهجوم والحرب والاستعدادات الروسية عند الأوكرانيين والأوروبيين بوساطة الأجهزة الأميركية وطلائع استخباراتها، حتى بدت شكوك «بوتين» في الدوائر المحيطة به، وخاصة المقربة والتي تجمعها طاولة واحدة صغيرة، وليست مثل طاولة «بوتين» الطويلة حين يستقبل رؤساء غير مرغوب فيهم، ولا مستجابة طلباتهم، وهناك تحفظات على تصاريحهم وسياساتهم، مثلما فعل مع الرئيس الفرنسي «ماكرون»، ومستشارة ألمانيا السابقة «ميركل»، لكن الحقيقة أن الفضاء أصبح مفتوحاً، ولا سقف يمكنه أن يحجب الأرض وما عليها.
وهذه الأيام نشهد فصلاً من الحرب الباردة والتي أساسها التجسس، بتجوال ذلك المنطاد الصيني فوق الأراضي الأميركية، واضطرار الولايات المتحدة إلى إسقاطه بهجوم مقاتلات عسكرية، ويقال: إن في الأفق منطاداً صينياً آخر آتياً، وهو بالتأكيد ليس للمشاركة في الألعاب النارية، وإنما لهدف بين الأكيد عند أميركا، أنه للتجسس، وبين المحتمل والمرجح عند الدول الأخرى التي تحاول أن تقف على الحياد النفعي، والنفي من الجانب الصيني الذي قال: إن المنطاد يختص بالنشرات الجوية ومعرفة الطقس، وأنه ضل طريقه، وبقي تائهاً وجاب جزءاً من الأجواء الكندية والأميركية. الأميركيون والأوروبيون لا يحفلون بالمزاعم الصينية تلك، ويتعاملون مع الصين بجدية ومراقبة صارمة لمشاريعها الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية، خاصة أن الصين قد أعلنت قبل مدة تطويرها منظومة تعطل الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، فهل في الأفق تهديدات بحرب إلكترونية جديدة باردة، خاصة أن أكثر الدول، وأولها بريطانيا، تخلت عن الطريقة القديمة لأدوات الحرب الباردة والتي تعتمد على الجواسيس والعيون والسبر وتجنيد العملاء من الداخل، وانتقل الجاسوس ذو القبعة والمعطف من طرقات الليل المظلمة والكاميرا الصغيرة المخفية إلى الفضاء بأجهزة دقيقة ترصد كل حركة من على بعد آلاف الأمتار، ولا ترى بالعين، ولا تعرف غايتها إن تم رصدها، وهي أدق من أجهزة نظام التموضع أو «جي. بي. أس» مثل أجهزة «بايدو» الصينية التي تشكل رعباً جديداً لأوروبا؟
وقصة المناطيد بدأت في القرن الثامن عشر، وكانت بدائية نوعاً ما، لكنها اليوم متطورة وبطريقة مذهلة، وعادة ما كانت تحلق بحد أقصى 36 ألف متر، غير أن المنطاد الصيني كان يحلق فوق 18 ألف متر، وهو ارتفاع يصعب على الطائرات المدنية الوصول إليه، وبقيت المناطيد من أدوات التجسس في فترات السلم أو أيام الحرب الباردة، كما فعلت أميركا ضد الاتحاد السوفييتي، وساهمت بشكل فعال في الحروب، وقد استخدمت في الحرب الأهلية الأميركية، وفي الحرب العالمية الثانية، كما فعل اليابانيون في هجومهم ضد الأميركيين، واستخدمتها أميركا في الحرب الأفغانية والحرب العراقية.. فهل المنطاد الصيني فعلاً منطاد تائه أم هو فتيل لحرب تجسس باردة؟