من الأشياء المحببة في القاهرة أنني استمتع بسماع الراديو والإذاعات التقليدية فيها، وتلك متعة ما بعدها متعة، تجدها تصدح في المقهى، في سيارة الأجرة، من شرفة منزل متعل في عمارة ما برحت تقاوم تجبر المدينة، وما زال فيها ذلك العجوز بمعطف النوم الصوفي المتهالك، مثل أرستقراطي تخلى عنه الوقت، أو كلما مررت بجانب حانوت قديم، أو تلاقيت بأغنية في الشارع مصادفة، ما زال الراديو هنا حاضراً ومتوهجاً، وله بريقه الدائم، وله ذلك الحنين الذي انقضى مع عجلة الأيام، لكنه في المدن التقليدية ما زال شاخصاً، تحتفي به، وله مكانته، فقط هنا في القاهرة، يمكنني أن استمع للمغنية، وليس المطربة، ولغوياً علينا التفريق بينهما، بين الغناء بالصوت، والطرب بالعزف، مثل «عفاف راضي» و«فايزة أحمد» و«فريد الأطرش» و«محمد عبدالوهاب» و«عبدالحليم حافظ» وغيرهم من رواد الغناء القديم، في القاهرة.. لا أقصد الاستماع، وإنما تأتي به الظروف والإذاعات الشتى، من خلال مروري أو مشيي أو توقفي أو ركوبي السيارات، وهذا أمر أفتقده في كثير من المدن، فميزة الإذاعة أنها تختار لك لتفرحك وتدهشك، والقاهرة جوّها العام هو الراديو، وذلك الغناء الجميل من الزمن الجميل، حتى تلاوة القرآن تجدها في الإذاعات، بحيث يمر عليك بالصدفة أيضاً مقرئون كبار من وقت مضى، كان متميزاً بذلك التنوع والغنى والجمال والأصوات والأداء الراقي. 
أغنيات من أفلام قديمة، أغنيات وطنية ارتبطت بمراحل الأحلام السياسية، أغنيات من استعراضات متنوعة، أغنيات تخرج من بطون المكتبات الإذاعية، والتي ربما أرجعتك أربعين عاماً وأكثر، كانت غائبة، وأيقظتها الإذاعة في الرأس من جديد، جميل لحظتها ذلك الحنين، وسيل الذكريات، فلا يمكن أن أسمع أغنية عبدالحليم حافظ «موعود»، ولا أتذكر «سيرك عاكف» في أبوظبي في أوائل السبعينيات، في «النادي الأهلي» الذي مكانه الآن «نادي الوحدة»، تلك الأغنية كانت تصدح فيه مكررة، ولا تتوقف، وربما كانت «ترند» على قولنا هذه الأيام، وحينما يريدون أن يغيروا قليلاً يضعون أغنية «زي الهوى»، لا يمكن أن أستمع لأغنية «سوّاح» و«أهواك» ولا أتذكر حديقة اللاذقية، وذلك الجهاز الغنائي الذي تلقمه ليرة سورية في أواخر السبعينيات، ليطرح لك الأغنية التي تريدها، ولا أغنية «قارئة الفنجان» ولا يمر المغرب بخاطري، يومها كان الحب يدق أبواب الشباب الذي بدأ يعرف الحياة، واخضرار الشارب... فالأغاني ستظل مستودع أسرارنا، ومخزن حكاياتنا، وعواطفنا التي كنا نخبئ أكثرها حتى عنّا. في القاهرة تحضر كثير من تلك الأغاني مصادفة وبغتة وأنت تتجول فيها، محركة فيك ذاك الشجن، وتلك المشاعر، وأفراح الشباب والعمر الهارب إلى الأمام.
كثير من الأغاني مرتبطة مع الإنسان بمكان بعينه، فلا تحضر أغنية وردة «بتونس بيك» إلا وتحضر باريس الأولى، وتلك السيارة الـ «فورد» الرياضية. بعض الأغاني تحضر حين سماعها بعطورها الأنثوية، وتجليات اللحظات الدافئة، بعض الأغاني تحضر بشخوصها، وبوجوه كانت منسية ومستقرة في قاع الذاكرة، تماماً مثلما هي «فيروز» حين تنثر أغانيها، لا تنثرها إلا والمطر يرقص في الخارج أو يترك شيئاً منه على قرميد المنازل أو يجعل الحجر مرتوياً بالعافية. أغنيتا فريد الأطرش «الربيع» و«أول همسة» حين استمع إليهما مصادفة، من خلال إذاعة عابرة أو محطة ناقلة، أتوقف، ولا أتمنى أن يقاطعهما شيء أو أن تذاعا مبتورتين؛ لأنهما تأخذاني إلى مناطق ساكنة من الليل في مدن هواها متوسطي، حيث لا شيء سوى العشق والرضا ونديم الوقت... في بعض المدن توقظ عيوننا الأغاني لنبصر من خلالها أرواحنا السابحة في الزمن.