كان كوكب اليابان محطة من محطات إحدى سفراتي الخارجية ذات خريف، وعندما تقترب كثيراً من هذا الشعب الذي تحول لمعجزة اقتصادية عملاقة في بلد بلا موارد أو ثروات طبيعية بعد أن نهض من ركام الهزيمة والانكسار قبل أكثر من سبعة عقود، تلاحظ مدى حرصه على احترام العادات والتقاليد والأسرة والذوق العام.
من الأمور التي لفتت انتباهي هناك الحرص على الالتزام وحالة التأنيب القاسي للذات عند أي خطأ حتى لو جاء عفوياً، واحترام وصون الذوق العام وثقافة الاعتذار، وتابعنا مواقف اعتذارية صارمة وصادمة تصل في بعض الأحايين حد التخلص من الحياة، وأبرزها «الهاراكيري» عند مقاتلي «الساموراى» قديماً وانتقلت لمقاتلي الجيش الامبراطوري بعدها.
كنت أشاهد مدخنين يتجمعون بالقرب من مداخل البنايات وكل منهم يخرج «طفاية» صغيرة يطفئ بها سيجارته بعد الانتهاء منها ويعيدها إلى جيبه حتى يصل لمكان صندوق النفايات يفرغها فيه.
نتذكر جميعاً قبل أشهر قليلة الاعتذار العلني في إعلان تلفزيوني لرئيس وأعضاء مجلس إدارة وكبار موظفي شركة لإنتاج «الايسكريم» للمستهلكين لاضطرارهم زيادة سعر المنتج بعد 30 عاماً بما يعادل أقل من نصف درهم إماراتي!.
استعدت تلك المشاهد بينما كنت أتابع اعتذار سيجي كيهارا، أحد مساعدي رئيس الوزراء الياباني، لمواطنيه عن وضع يديه في جيوبه وتعديل بنطاله أمام الكاميرات، خلال حديث فوميو كيشيدا رئيس الوزراء أثناء زيارة رسمية مؤخراً للولايات المتحدة، والتي تعدّ القمة الأولى له مع الرئيس الأميركي جو بايدن، بمشاركة دول أوروبية وأميركا الشمالية.
اعتذر كيهارا «بعد اتصال من والدته توبخه فيه على فعلته، طالبةً منه إصلاح هندامه قبل الخروج أمام الكاميرات والاعتذار». وقال كيهارا البالغ من العمر 52 عاماً، أن والدته قرأت تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، تقول بأن «ما قام به عار يعود على والديه».
هذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها سياسي ياباني لانتقادات واسعة، فقبل نحو أربعة أعوام أثارت مسؤولة يابانية رفيعة ردَّ فعلٍ عنيفاً على وسائل التواصل الاجتماعي لوضع يديها في جيوب سترتها، بعد أن هنأت فائزة بسباق في ماراثون بالعاصمة اليابانية.
بعضهم يرى في هذه الجوانب من الشخصية اليابانية عوامل تفوق ونهضة بلاد الشمس المشرقة، بينما مجتمعات أخرى تغرق في أوحال غياب الأخلاق وأبسط قواعد احترام الذوق الذي لا يحتاج للتدريس في الكتب والمدارس، وإنما الاعتناء بالأسرة وقيمها باعتبارها أساساً وعماد صلاح المجتمعات.