ثمة عوالم خفية تنغرس عميقاً في أرواح كائنات الطبيعة كلها. مشاعر كالفضاءات التي لا حدود لها. توق وأشواق بالغة الطلاقة في سرائر الخفاء الذي لا ندركه نحن البشر ولا نراه لأنه لا يعبر عن نفسه بالوضوح الذي تعبر عنه الكائنات الإنسانية. عوالم مبهمة، سرية، خفية. كأنما هي أنين أو نشيج. أو أنها شهقة المطلق الذي حين يرتطم بالسياج المحدود، لا ينحني. يظل متسعاً ومستعصياً على الأطر والسياجات التي ينصبها البشر خوفاً أو حماية كما يعتقدون! وبين زمن وآخر، وبين مشهد ومشهد ينبعث العويل خافتاً مجسداً في ارتكابات مقنعة أكثر الأحيان. متوارية وملتبسة بظاهر القنوط. عويل قد لا تسمعه الآذان المثقلة بضجة الزيف وقشور الحضارات، ولا تراه الأبصار الكسيفة، ولا تحدسه الدواخل الغليظة المفعمة بالفجاجات، ولا تحسه المشاعر المغلفة بالعادي والمألوف. فثمة مشاعر في أرواح الكائنات بتعدد أجناسها وحلقات تطورها.
صباحاً استيقظت من غفوة متقطعة بسبب القلق اللئيم المقيم الذي لا يغادرني ولا يتركني في نوم عميق، لأنتشي بحلم يستحضر الغائبين الذين ظننت أن ذكراهم انمحت على مدار السنين. نهضت مسرعة، اغتسلت وأحضرت فنجان قهوتي الصباحية، ودخلت غرفة مكتبتي لأتساءل، كما اعتدت كل يوم: ماذا أكتب وما أجمع من كتاباتي التي تكتظ بها أجهزة الكومبيوتر واللابتوب وحتى الموبايل؟ وفي انشغالي بكل هذه الرغبات لم أنتبه لفراشة كانت تحوم في فضاء الغرفة الذي بدا لها هائل الاتساع أمام حجمها الذي لا يتجاوز نصف بذرة يقطين. كانت الفراشة الصغيرة، عاشقة الضوء والطلاقة، تحوم في الفضاء الذي صار الآن كأنه فضاؤها. تطير وتحط متتبعة مسار الضوء الذي ينبعث من النافذة. لكنها أدركت بفطرة حرة أنها مسيجة بفضاء لا يشبه فضاءها الأول في الطبيعة. فرفرفت في الاتجاهات التي تحدها جدران الغرفة، بجناحيها الرقيقين، وطارت. ثم حطت على أحد الجدران، وظل جناحاها يرفرفان بهدوء حتى سكنت. وبعد لحظات طارت فجأة وحلقت في فضاء الغرفة، كأنما أدركت أن ليس للجدار طراوة العشب واهتزاز الغصون. حوّمت قليلاً ثم حطت على جدار آخر. هكذا راحت تطير وتحط. تتعب وتستريح، تيأس ويعاودها الأمل. في حركة دؤوبة. ثم، فجأة اندفعت نحو النافذة في وهم الزجاج الشفيف، الذي لا يشبه الفضاء إلا في خديعته. كانت النافذة مغلقة فارتطمت بقوة اندفاعها بالزجاج البارد القاسي، وسقطت على أرض الغرفة في نشيج صامت ويأس أخير. وحين انتبهتُ لسقوطها حزنتُ واقتربت منها وتناولتها بيدي وفتحت النافذة وأطلقتها، لظني أنها ما زالت على قيد الحياة. هكذا نحن البشر، لا ننتبه لنشيج الكائنات وتوقها للحرية المطلقة!