في الحياة تجارب كثيرة، لكن الفريد منها قليل، وفي الأسفار تجارب مختلفة، لكن المميز منها قليل، ومن بين هذه التجارب الفريدة والمتميزة رحلة لم تستوجب تذكرة، ولا تحتاج لتذكرة أصلاً، فالتذاكر خلقت لغيرها من طائرات الشحن الجوي، والطائرات المتعثرة التي خبرتها في صباك، والتي تشبه طائرات رش المبيدات الحشرية أو طائرة كلها وَهَفّ، وفانيلات صوفية متعرقة تجلب الصداع لساعات ما بعد السفر، لكن هذه الرحلة وبهذه الطائرة تعد من التجارب الاستثنائية التي لا تتكرر، ولا أعتقد أنها ستتكرر، فكرة.. أن تستقل لوحدك طائرة خاصة، ليس فيها أنيس ولا ونيس إلا «الكابتن» ومساعده الذي يعتقد دائماً أنه أفهم من الكابتن، خاصة بعد تقدمه قليلاً في العمر، ومضيفة شقراء أقرب لعارضات الأزياء، لا تشكو من أي جرح في ساقها أو أي طعج في خاصرتها، وحضرة «الباشا»، و«الباشا» هذه من عندي، لأنني حاولت أن أصف حالي فلم ألق إلا هذه الكلمة التي استعرتها من السينما المصرية، حين تحتار في ماذا تصف شخصاً في تلك اللحظة التي تعتقد فيها أنه مهم، ولا تدري عنه شيئاً، وقائمة طعام تشبع عشرة أنفار، من المطاعم الموصى بها، وربما تحمل الشوكة الذهبية في فترة من الفترات، والوجهة كانت إيطاليا «نابولي»، حيث يضيع دم المسافر، فلا تعرف النصّاب من ابن الحلال، ولا تدري إن كان هذا الرأس المعتمر القبعة الصقلية له صلة بالعصابات أو هي مشتراة على عجل من محل لا يكترث مالكه كثيراً إن أغلقه وقت القيلولة.
الصدفة وحدها التي جعلت الذي اعتاد السفر على ناقلات وطنية يرثى لها؛ الأفريقية التي توصلك لجهة غير متفق عليها، والرومانية المختصة بشحن اللحوم والذبائح المجمدة، وناقلات تابعة لجمهوريات مستقلة، كل الذي ربحته من الاستقلال تحويل طائرات الشحن العسكرية لطائرات مدنية، ظلت فرحة بها طويلاً، أقول الصدفة وحدها، وليس مالاً فائضاً ولا تغيراً في الحال، جعلتني أشعر لأول مرة بمعنى لكلمة «حضرة الباشا»، شعرت أن لا ضرورة لرفيق سفر، يبدو عليه الأسف من دفع ثمن تذكرته السياحية، ويريد أن يُظهّرها من جليسه بادعائه الكثير من الأمور، ولأول مرة افتقدت رصّة الكراسي التي في «الكَرّيَلّ»، وافتقدت معها ذلك المسافر الذي يظل «يلجزك» بكوعه في خاصرتك، وافتقدت بعض النفر من المسافرين الذين لا يقرّون في مكان، وكل حين وساعة يتعلث بالذهاب إلى الحمام، وهو ناشف، ما عنده قدر الفنجان، بس يحب يُعثّر المسافر الذي جنبه، فتقترح تبادل الكراسي ما دام فيه «طرقه»، فتجلس أنت جنب النافذة التي تحبها، والتي بقيت تحسده عليها، فيبتسم، ويقول: لا.. أحب التمتع بمشاهدة المناظر، فتتمتم في داخلك: طيّب.. أجلس على بيصك، وتمتع بالمناظر!
تشوفون.. نسيت الطائرة الخاصة، ورجعت للحديث عن طائرات «أم أحمد»، المهم أول شيء قالته المضيفة، بوجهها البشوش، وتلك الابتسامة التي تدربت عليها طويلاً، لتحظى بتلك المكانة في طائرة كهذه: تحب أن تجلس في أي مقعد.. أيها السيد المبجل؟ فضحكت، وكدت أجلس في أول مقعد صادفني، فخفت أن يكون من الكراسي التي تخصص لجلوس المضيفات عادة فأشعرها أنني أول مرة أستقل طائرة خاصة أو أنني حديث نعمة، استجمعت ثقتي بنفسي، وبقيت واقفاً أحادثها في موضوع غير مهم، وعيني تدور على كرسي، عادة ما يجلس عليه القوم الذين يعرفون مثل هذه الطائرة، كغرفة صغيرة في منازلهم، وما ساعدني على اتخاذ مثل هذا القرار، بهذه السرعة، كونه أول قرار يجب اتخاذه بحزم، لتسير الأمور فيما بعد بشكل طبيعي، ولا تربك طاقم الطائرة، وتكسب لطف المضيفة، مرسلاً لها إغراءات بعيدة المدى، وشباكاً طويلة من الصبر، فالاستقامة لا تبدو عليك مطلقاً.. وغداً نكمل..