لا صوت يعلو على صمت الجبال. فهم حرّاس الريحِ إذا ماعت قليلاً أو تطاير فستانها. وهم سدنةُ المطلق، إذ كلما رميتهم بحصى ابتلعوها وتركوا يديّ فارغتين. جرّبتُ يوماً أن أدرّب المجانين على صعود القمم، فضحكت عليّ النسورُ وباضت غيمة الشك فوق رأسي. ثم جرّبتُ أن أسرق النار من الشرق والغرب وأثبّتها علماً في الوسط، لكن المطر الخائف بلل رؤيتي، واتهمني عقلاءٌ بخيانة المسافة ومحاولة الانتماء إلى الانفتاح الكلي على المعنى، بلا قيد أو حذرٍ أو شرط، وبلا مراعاة لزمن البدايةِ أو أبد النهاية. وأذكرُ، سمعتُ صوت امرأةٍ كأنها أمي يقول: حتى لو جرجروك لتشكّ في ذاتك، حتى لو عطس كبيرهم في عينيك، لا تصفّق لأحد ولا تفسّر للجهلةِ معنى جريان الماء تحت قدميك.
لا صمت يعلو على حزن امرأة أجلسوها أمام الجدار بدلاً من المرايا. وكانت في صباها تُطلقُ السهام على القمر الشاحب كي يبتسم، وتستفز الحرّاس الليليين بغناءٍ أوبرالي يترددُ صداه من سطوح البيوت المغلقة. قال عنها السحرةُ: نحنُ أسراها. قالت النجومُ: هذه عذوبةٌ لا تُحتمل. ثم وقف رجلٌ عجوز يحملُ قاموساً أحمر وفسّر كلماتها بغير كلماتها، وكان يقصدُ أن الجرح شرطٌ واجبٌ في الحب، والدم النازف منه هو حبرُ أختامه. وقال إن المرأة التي تولدُ حرةً وتقررُ أن تموت حرةً، هي لساننا المقطوع. ومن دون رقصتها لن نرتجّ في الغفلةِ، ولن تُهدم فوق رؤوسنا قلعة التكرار.
كنتُ طفلاً يحاولُ الصعود على جبل لا نهائي، صرتُ ظلاً يتأكسدُ في الوظيفة ويقاومُ محوه العلني. هكذا اعترف رجلٌ طويلٌ لابنه القصير، لكنه حين مشى، ترك قميصه على شجرة يابسة لعلها تورقُ بعد حين. ثم حاصره باعةٌ متجولون وألبسوه بذلة رجل أعمال ولقبوه بـ«سيد أفكارنا» وشيئاً فشيئاً، رأينا النسور الجريحة تحفرُ نبعها تحت قدميه، والطبالين يدورون من حوله بحثاً عن يديه، فإن فتحهما استيقظت الصفعةُ، وإن لوّح، عبسَ في وجهنا الوداع.
هل أصعد الجبل حافياً لأقول إن رقبتي أطول منه؟ هل أنزل الجبل متدحرجاً كي أصل مفتّتاً كلمة كلمة، وسؤالاً سؤالاً؟ أخاف أن أكتشف في العلوّ ملل العلو. وأخاف أن تثور الريح ضدي فيحملني هيجانها إلى التقلّب في مزاجٍ مر، أو أن أطالب بالسقوط والتلذذ بالانتماء إلى الفناء!