كوكب المتاهات كنتِ. في دمك مدارات الفصول. ومن كفّيك ينساب الماء سخياً. مذ كنت كان قلبك مداك ونبضك حبر. عيناك على أفق الأبد. البحر إذ تلوذين به يطوحك. متكأ الكائنات بيتك. ليس يدركك القليل. شيدتِ ممالك اليأس ورفعتِ منارة الأمل. واضحة كالماء أنت، طيبة كالعبق. غامضة كما تشتهين. إن شئتِ عجنت الصلصال، وابتنيت من الغيم خريطة. سواسيةً تسيرين وقليلك كثير. إذا رميتِ بجمرك في الصقيع اتقد. نزقة يزنّرك النهار. أقاويلك فيء وضوء. بإبرة الصباح تنسجين الأمل وترتدين وشاح الياسمين. ليس يأسرك السياج، وليس قيدك من حرير. حرة كأنك الشهوة، رطبٌ كأنك الصيف. تمدين يدك إلى الخواء فتساب الينابيع. قدماك كفراشتين. وحيث ينوس الضوء بيتك. وحيث تهدأ الكائنات صحوك وهدأتك. تنامين في الصحو وتهندسين الرغبات. وتوقدين جمرك كي تطمئني. لك الظنون كالمرايا على عتبات اليقين. لونت الثواني بارتوائك. لست أول من يجيء، لكنك وحدك. لست تعرفين مقدار ذرة، لكنك تعلمين. توغلت في الشعر حتى البزوغ. وأدركت ما ليس يدركه الآخرون. أليس الماء سر الورد؟ ألست الكائن الفرد؟ تفصحين هيئتك في التجلي وتغمضين حتى اشتهاء الندى. ألم تحْبكْ سرائر الكون في لغتك وتهندسين العمق في المعنى؟ ألم ينحنِ الجبل وتنفلق الينابيع ويهسهس العشب إذ مرت خطاك على الحقول؟ هذي بنفسجتك تزهر، وهذا مدارك إذ جاء بك قدر إلى الحياة. أفي الغيب ما لا تدركه الرؤيا؟، فانهضي إلى ما شئت، وتجلي في المعنى والخيال!
فلماذا أنت سادرة في الأسى، مالئة كفك ببهجة الرافل في قنوطه؟ أتعرفين كيف تحتفين بالأشياء والناس والكائنات؟ ليس إلا ضوئك ينحدر بهياً مشرقاً ويأسرك. لكنك كنت أسيرة بين الشك واليقين، تمدين يدك فتقصر، دمك يرتج وقلبك يصطخب كأنما في جسدك حرائق، أو أنك شبيه العصف أو نثار الهشيم!
أتذكرين كلما خادعك الوقت وأرقتك أمانيك ارتقيتِ. وكلما أوغلت بين الشك واليقين احترقت. وكلما أيقنت أنك لن تصلي، محوت تمائمك بزعفرانك. كأنك ارتديتِ غلالة الضوء. تسيرين ولا تدركين ما بك. تعتمين حيناً وحيناً تشرقين كأنك المطر الشحيح على اليابسة، فيخصب الطين، وتبذرين الورد والريحان. وتنقشين خطاك على مدى السنين. لم تستجيري بغيركِ، ولم تحتفي إلا بوهج حضورك، ولم تتكئي إلا عليك، حين أيقنت أنك قد جئت وحدك وستبقين في مدار العمر وحدك، ووحدك بعد الموت ستبعثين وحدك! فكوني كما شئت أن تكوني لأنك البدءُ وخاتمةُ التكوين!