مقتلنا تلك الطفولة الضاحكة مثل قطرات ندى على ورد، تعبنا كله تلك البراءة التي تقود خطى أطفالنا، ولثغة شفاههم، وأسئلتهم الطرية التي تعثر أقدامنا، جميل أن يجروا عمرك نحو أعمارهم، جميل أن تسرق الطفولة منك يومك، وتجعله يسير وفق رغبات صغار، كبرعم زهر أبيض، يتقافزون وأحلامهم الهشة في عوالم من غابات وشجر وورد، وحيوانات لطيفة، وسكينة وكلمات نظيفة مثل رضاب أفواههم، وقصص تجلب لهم دافئ النوم لمراقدهم، أو يسير نهارك وفق أمان قديمة، ودعّت أيامها دون أن تنهي لعبك، ودون أن تعرف الألوان كلها، ودون أن تكون معظم الأشياء مباحة لك، ولقبضة يدك الطرية، لكنها تحضر اليوم برفقة الطفولة التي تسحبك، وتجر عمرك إلى الوراء، وأنت كلك رضا، وثمة ظلال من السعادة تغشاك، وتحلّ عليك الطمأنينة ببرد حروفها النورانية، يكون النهار من أوله لهم بطقوس البراءة وحكمة الفطرة، لا يتخوفون من كلمة، ولا يفزعهم موقف أو سؤال، يأكلون حتى تتسخ ثيابهم الجديدة ولا يبالون، كل الأمور لديهم سواء، أقل القليل يضحكهم، والكثير لا يعني لهم شيئاً إلا بقدر حاجة أفواههم كحبات الكرز، يمكنهم أن يعبثوا بلحية رجل كبير بفرح يحبونه، ويسعده هو، يمكنهم أن يغيروا حطّة العقال من على رأس كبير في القوم، وهم يضحكون، وهو عيناه تدمعان ضحكاً، لأنهم حركوا شيئاً في قفصه الصدري، لم يسعد منذ وقت، يسير ذلك النهار كسير غمامة حبلى بالمطر والخير، منذ أن فتحت الصغيرة الستائر وهي تصيح مع الديك، وتتذكر أن اليوم بلا مدرسة، وأنها وحدها من تأمر اليوم، فتصرخ، وهي تقلدك من صباحها، وعن رغبتها: «أريد جاهي وبراتا.. ويالله نروح» ولا تلتفت لصرامة الأم بفطورها التعليمي الفرنسي الذي كل شيء بمقدار على تلك الطاولة التي تكرهها، وذلك الكأس ببرتقاله المعصور بعناية دون أن يلتفت إليه أحد، وعلب المربى الصغيرة والمتنوعة التي تشبه فناجين القهوة، وقوفاً.. هو فطوركم، كأشبال الكشافة، وتكملونه خارجين، تغلقان على كلمات ووصايا الأم الباب، وهي ما تزال تتحرطم، وتنطلقان، وتفرح لهم أولاً لأن المدينة ما زالت خضراء، وتترحم على ذلك الرجل النبيل الذي يحرسه الدعاء، حين جعل من تلك الرمال الخبّازية جنائن ونخيل، ثم تفرح لهم ثانياً أن هناك بحراً أزرق في مدينتهم سيظلون يودون موجه المتكسر وزرقته الآسرة، تتناولون غداءكم الكشفي على بساط أخضر، وقرب البحر الأزرق دون أن تتبعوا وصايا الأم المتكررة بأهمية الغذاء الصحي، وتقول: هو يوم فدع الصغار يفرحون بيومهم، ثم تحبب لهم هواية جميلة وتقربها لأذهانهم، وتجبر نفسك على حضور فيلم للأطفال بأبعاده الثلاثة، وتلك النظارة السوداء التي تجلب الغثيان، لكنك تفرح كلما ضحكوا أو علقوا على الفيلم أو بدأ التأثر عليهم أو تعليقاتهم ما بعد الفيلم، تسر أنهم ما زالوا يريدون اللعب في تلك الزاوية من المركز التجاري، ويصرون على أن تجرب معهم ألعابهم، فلا تتردد، فما لم يحققه لك الآباء، يحققه لك الآن الأبناء، وحده الليل حين يخيم يقبض تلك الفرحة النهارية منك، ويجرح حلقك وداعهم كل إلى سريره حاملين «دبابيبهم» الملونة ليحكوا لها عن قصة يوم باسم مثل بتلات الورد.