في الزمن هذا كثر الشعراء وتكدست كتب الشعر حتى بدا كأن الشعر ليس سوى قول عادي لا يفترق، ولا يغاير. بل إن أغلبه يفتقر إلى وهج الروح وتألق الخيال. والشعر إذا صار هكذا ما الذي يجعلنا نسميه شعراً وليس مقالاً أو حديثاً حول فكرة ما؟ فسواء أدخل في تشكيل قديم القالب أو جديد، يظل دون ذلك الوهج الغامض الذي يلامس الوجدان ويتماسّ مع حالة باطنية غامضة في الشعور والذاكرة عند المتلقي.
إن ما يربط بين الشاعر والمتلقي ليس الفكرة وحدها فالأفكار تظل مجردة ورقمية حتى لو وجدت عند المتلقي توافقاً ما. ولكن الوهج المنبعث من قوة الشعر أمر آخر، إنه إحساس يحيلك إلى حالة تتشابك، بين الأسى، والبهجة والفرح، وربما تلك الحالة التي نعبر عنها بقولنا: تمنيت لو أستطيع أن أكتب هكذا!
الشعر حين يحدث هذا الاهتزاز الغامض لدى المتلقي، يعيد صياغة بواطنه دون أن يعي. والشعر الذي يحدث هذا التحول عند المتلقي لا يكون قولاً عادياً مألوفاً شأن أي قول آخر بل يدون مرة واحدة فقط، لا يعاد ولا يتشابه حتى في مفهوم التناص، أو التأثر. ولذا لا تتشابه القصائد حتى عند الشاعر نفسه، وإذا تشابهت فإن خللاً ما يؤول إلى الرتابة وفقدان القدرة على التجدد. ولكن هل للشعر قوة التجدد والتجديد في زمننا هذا؟ هل للشعر تلك القوة العظيمة (التي تقوّم الخطأ، وتحرّك الأرض، والخيال والوجدان والقلوب والأرواح)؟ هل يستطيع أن (ينقذ شعوباً من فتك الحروب والمجاعات، ويمنح صوتاً لريح الفضيلة الإنسانية)؟
هذه هي قوة الشعر كما ورد في «كتاب الأناشيد الكونفشيوسية» وهو أقدم الموسوعات عن الشعر الصيني، والنبع الثري للشعرية والفكر الشعري.
يشير الباحث «توني بارنستون» إلى أن الشروح النثرية الفطنة، والعميقة المتعلقة بفن نصوص (الهايكو) القصيرة التي لا تتجاوز بضع جمل، تستلهم التكثيف الموحي للقصيدة الصينية القديمة، غير أن استبصاراتها في قضايا الشعر والنثر جوهرية إلى درجة أنها على رغم المسافة القارية ومرور القرون تصلح دليلاً عملياً وممتعاً للكتّاب المبدعين اليوم. فنصوص الشاعر الصيني «لو-جي» القديمة، تمثل تحفة أدبية في الأدب العالمي، وقد ألهمت أجيالاً متعاقبة من الشعراء. فالصيغة الشعرية تنتقل من العصور القديمة على متن قارب الكلمة وتمنح لكل جيل القدرة على صياغة ثقافته من جديد. ولذا فإن الأدب الذي درجنا على تسميته «عالمياً»، لم ينغلق على تراثه فقط، بل إن الحداثة استنسخت وتثاقفت وتمازجت مع آداب الشرق القديم، واستمدت من قوة روحها، قوة التجدد!