يقف الشاعر على حافة الهاوية مشغوفاً بالتحديق في عمقها اللانهائي. ذلك أنه مسكون بشهوة الاكتشاف، ولا يطيب له المقام إلا في التجلّي حين يمتطي فرس الخيال ويفكُّ لجامها وينطلق. ومنذ بداية الخليقة، ظل الشاعرُ يبحث عن صيغٍ لتدوين الانفلاتات الشاردة وتقديسها، فراح يحفر على جدران الكهوف رسوماً تروي أسطورة الزمن وأحداث الأيام وعلاقته بالكون والنجوم.. ومن يتعمّق في فهم معنى الشعر، وجدواه، يدرك أن هذا النوع من التعبير هو الذي منح اللغة قدرتها على التوالد والاشتقاق، وهو الذي حرر الخيال من إسار اللغة الجامدة والتفكير النمطي. ولذلك ظلت الشعوب على مدى تاريخها تلجأ للشعر في كل تفاصيل حياتها، في الحب كما في الحرب، بل إن ما يجده الإنسان في النص الشعري، لا يمكن أن يجده في الواقع إلى درجة أن المسميات اختلطت بين الشعر والسحر.
يجدد الشعر اللغة، ولكنه في العمق، يغسل العقل والروح ويجعل الحياة قابلة للتكيّف والتشكّل وفقاً لما يتمناه الناس. وحين يكتب شاعرٌ ما: فمِي نداءُ الريح وحصاني من ورق، فإنه يهزم قيد الجاذبية ويمد صراخه إلى أبعد من حدود الأفق. هذه القدرة على توليد المعاني لا يمتلكها أحد سوى الشاعر. أيضاً حين تكتب شاعرةٌ في ليلها الحزين قصيدة وتقول: أكتبُ على صفحة القمر رسائل عشقي لكن الشمس تمحوها في الصباح. حين نقرأ هذه الصورة، تتسلل إلى الروح حالة من المشاعر التي لا توصف، فيضطرب معها القلب وربما ارتجفت الحنايا وسرى في العروق نبض أمل جديد.
يقف الشاعر أيضاً على حد السيف. كثيرون طارت رقابهم قديماً بسبب زلة لسان أو تورية، وكثيرون ارتفعوا نجوماً في التاريخ وظلت قصائدهم تنبض بالحياة مئات السنين، وهو مجد لا يملكه أحد سوى الشعراء الذين تركوا لنا هذا الإرث الخالد من الأساطير والحكايات والحِكم والنصوص.
اليوم، تسربت فكرة الشعر إلى التفاصيل كافة. ومن يتعمّق في تأمل وجوده، يراه أحياناً في لقطة ساحرة للاعب كرة قدم، ويسمعه في حماسة مشجع رياضي، وفي تلاعب الريح بعباءة امرأةٍ حسناء، وفي لقطة مصوّر محترف للحظة انقضاض النسر لخطف سمكةٍ من النهر. كلهم يبحثون عن اللحظة الشاعرية، عن التعبير الساحر/ الشاعر. بداية من العناوين والأسماء وصولاً إلى ضربات الفرشاة في اللوحة وبناء المشاهد المؤثرة في السينما. جميعهم يقتربون من الشعر بدرجة ما ولكن قِلةٌ من يلمسونه.