في زمننا البعيد كان السفر بسيطاً وقريباً لكنه كان جميلاً، ومساكين كنّا، نرتضي بأي قليل، وأقل الأمور تسرنا، وتدهش قلوبنا، وتجلب لنا الفرح والجديد في حياتنا في تلك الأيام الفارطة، كانت الدهشة حاضرة، والضحكة غير بعيدة، والقناعة هي سيدة الأشياء.
- غاية سفر الصيف أن يذهب أهل الساحل للعين، وأهل العين لا يبعدون عن صيف الباطنة أو محضة، ليزهو الأطفال بالسباحة في الفلج أو الأحواض التي تنتصف بساتين النخل، وظلها الظليل، ينتقون الهَمّبا والموز الصغير الفرضي أو الكبير المفرغاني، يركضون خلف «صرناخ» أو «زنباع»، يصنعون ألعابهم الطفولية الصيفية مما توجد النخلة من جريدها الذي يمتطيه الأولاد كفرس متخيلة أو يسحبون كربه كناقة عليها شدادها أو يعملون من عسقها «قرقعانة الصيف»، فرحين بما يخزنون من حكايات لأصدقائهم حين يلتقون.
- كانت تفرحنا مخرافة الرطب أو مشاهدتها وهي تسبق نزول طالع النخل وقاطف رطبها الجَنيّ، وكم كانت تسر نفوسنا حين يطلب منا حملها مزينة بالسِمن واللومي الأخضر للجيران الحاضرين من السواحل الذين لا يرجعونها خالية، فـ «شفاياهم» لا تتوقف حتى يقفلون راجعين.
- كانت هناك سلال أخرى تحمل «الهمبا» و«الفرصاد» والتين و«اللَمبّو» تتسرب من بساتين النخيل للبيوت وضحاها التي تكون معطرة بأحاديث النساء، وطبيخهن البسيط والذي سيتسرب لكثير من أبواب الجيران، ولو على حد قولهن: «بغيناكم تطعمون من غدانا شوي»!
- كانت وجبة الضحى لأطفال الزمن القديم الذين ينهضون مبكرين مع أهاليهم، تلك الوجبة المستقرة على «صرود» من الخوص، الحاضرة تحت شجرة الليمون الظليلة أو النخيل الباسقات، والمكونة من مرضام من خبز البُر، وعليه «جامي» ودهن الدار، ورطيبات مخروفة للتو، و«كلاس» لبن معدني يظل بارداً على الدوام، وذلك الحديث الشهي حولها، والذي كان يجلب العافية، والغفوة الباردة، وسعادة ذلك الصيف.
- كان الصيف في ذلك الزمان عادة ما يتجمل بالمطر، فيضفي على البساتين في تلك الواحات لمعة باردة، وفرحاً عادة ما كان يأتي مع هبوب رياحه جاعلة النفوس الصغيرة تتقافز من محلها، وتظل حكايات المساء و«حزازيره» على تلك «المنامة» التي تتسع للجميع.
- كانت غاية إجازة الصيف عند بَعضنا أن يسجل في نشاط المدارس الصيفية الخالية من أي دراسة، فقط كانت ألعاب بسيطة ومبتكرة، ومسابقات رياضية وثقافية، وتدريب على مهارات الحياة الأساسية، وفرصة للالتقاء بطلبة ليسوا من مدرستك، والقيام برحلات مدرسية إلى مدن الإمارات.
- كان الصيف بريئاً في تلك الأيام، وكان يحمل لنا في كل عام حباً جديداً يكبر في القلب، وتتعثر الرسائل في الوصول، غير أن الأيام وهروب العمر إلى الأمام تجعلنا ننسى، ونفتقد ملامح بعض الوجوه، خاصة حين تشبّ الفتاة وتتبرقع، وتصبح منقطعة عن لعب السكيك أو الدراسة في مدارس القرآن، حينها نعرف أن بنت فلان أصبحت عروساً، ولا تتكشف على الصبيان، فنودعها في صيفها الأخير بدموع ساكتة، ربما هي لا تدري عنها، وربما خبأتها في ركن دافئ في أطراف قلبها، وسارت بها الركبان ظعوناً أو في سيارات قديمة، صنعت للوقت الصعب في تجاوز كثبان تغطي أسنمة فحول الجمال.