يخرج الرجل الحزين من معطفه الخشبي ويقرر أن يقفز في المغامرة. لكنه يصطدم أولاً بذكريات الحذر وكلمة «لا» التي سمعها ألف مرة في الطفولة. بعد ذلك، تتسرب هذه الذكريات إلى قدميه إلى درجة أنه يشعر بثقلهما على الأرض، وينتابه شعور بأنه مجرد صخرة عليها أن تظل مكانها لتنعم بالخلود وبالأمان. ولن يكون مستغرباً لو رأينا الرجل الحزين هذا يقفُ على عتبة الحياة طويلاً، فلا يخرج ولا يدخل ولا يتغيّر مهما دارت الساعات وانقلب الزمن.
كل قفزٍ خارج الرتابة هو انتصارٌ على الموت. كل ذهابٍ في اتجاه الغموض، هو كشفٌ جديدٌ للحقيقة. أعرف امرأة قشعت ستائر العزلة وكتبت بجدائل شعرها قصائد الريح. وأعرف بحّارة ذهبوا إلى ما وراء البحر بحثاً عن حوريات ليس لهن وجود إلا في الأساطير، وليتني كنت منهم. لا يعرف الرجل الحزين الفرق بين الشرق والغرب، وقد تأكله آفةُ الندم وتتركه ممزقاً مثل شراع سفينة محطّمة. ولكن الرجل المغامر، ذلك الذي لا يروي عطش اندفاعه سوى المدى، قد نراه يجرُّ حبلاً طويلاً ليقيس طول الأرض وعرضها. ومن لذّة المغامرة، أن المجهول يصبح واقعاً في كل لحظة، ويصير البحرُ سجّادة والجبال خياماً في معزوفة الرحيل إلى البعيد.
لا يكتب الشعراء عن الرجل الحزين، ولا يمجّدون كآبة أيامه وصمته. إنهم على العكس، يشعلون الخيال بسيرة الرجل الذي امتطى حصاناً وحمل سيفاً وذهب ليواجه العاصفة وحده. وسمعتُ في قصائدهم أغانيَ قالتها الأشجارُ وحملت معانيها أوراق الخريف بعيداً إلى غير رجعة. وما ينسبُ اليوم إلى شاعر مجهول، هو في الحقيقة مجرد أثر وبقايا صدى للرجال الذين صنعوا التغيير ولو بالكلمة. الرجال الذين لم يبالوا بتدوين أسمائهم على الصخر، بقدر ما التفتوا إلى الحفر بأيديهم في الأرض اليباب كي يتدفق نبع الكلام العذب ويروي القلوب الدائخة.
ليست القسوة في الصمت، وإنما في الرجل الذي يقول كلاماً كثيراً وهو في الحقيقة لا يقول شيئاً. وفي الرجل الذي تتفتح لها أبواب الحياة ويدفعه الدافعون كي يستلذّ بأيامها القليلة، لكنه يفضّل أن يتأوّه كلما عانده التيّار وارتفعت النتوءات في دربه القصير. هناك فرق لامرئي بين الحياة والموت، بين الضوء والظلام، وبين الحزن والفرح. والعارف الذي يُدركُ معنى الوجود، هو الذي يختار أن ينحاز إلى هذا المعنى، أو ذاك.