القلقون هم أطفالنا، و«المنز» هو مهدهم، والقلقون عليهم أكثر، هم أهلهم، والعلة غائبة حاضرة، هي قلق العصر الجديد، ما أذكره، ويذكره جيلي، وما يليه في ذلك الزمن الذي غدت الأمور فيه بسيطة ومتقاربة وتسير بمهل، وبعيدة عن التأثير الخارجي الدافع والمحاصر أو الداخلي الذي يريد أن يتقشر ويتفجر، في ذاك الوقت لم نكن نعرف التوتر والقلق والضيق والتبرم والغضب في سنوات أعمارنا المبكرة، حتى طَرّ الشارب واخضرّ، وبدأنا نكتشف الحياة، وما فيها.
اليوم أطفالنا في أعمار جد مبكرة، وتكاد أن تأتي بعد سنة الحبو، وتعلم المشي، يتعلمون كيف يلعبون بـ«الآيفون والآيباد والألعاب الإلكترونية»، ويتصارعون مع الصور المتحركة، والألعاب بأنواعها، تجد طفلاً في الثالثة متوتراً، ومركّزاً، وأعصابه مشدودة لدرجة أنه لا يريد أن يرفع عينيه من على الشاشة، بنت في الرابعة والخامسة تظل وهي تلعب تحرك قدميها دليلاً على القلق، وعدم الاستقرار، والتوتر الذهني، وما يصاحبه من حركات جسدية وعضلية غير إرادية، وإن انهزمت في لعبة ما، تجدها تنهض واقفة، تسب، وتكاد أن تضرب «الآيباد» بالأرض، لقد تعدى الأمر اللهو إلى الالتهاء التام، وقضاء وقت فراغ في لعب لعبة معينة إلى التوحد التام بالجهاز، لقد صحبت ابنتي مرة، وبقيت أقيس تلك التجربة التي لم نعهدها في صبانا، فمنذ أن ظهرنا من أبوظبي، وحتى بلغنا مشارف العين، وهي مطأطئة رأسها على تلك الشاشة الإلكترونية، تضحك وحدها، وتتذمر وحدها، وتندب حظها مرة، ومرة أسمعها تقول: «يَسّ..»، ومرة: «أو.. ماي كاش»، وهكذا راحت سدى تعاريفي لأسماء المناطق القديمة التي تقطن طرفي شارع أبوظبي العين، كما راح سدى أي حوار حاولت أن أجريه معها بشأن أي موضوع، كل المسائل لديها كانت مؤجلة، و«بعدين بابا».
علينا أن ننتبه لحجم القلق الذي يربيه أطفالنا معهم منذ نعومة أظفارهم، بسبب هذه الأجهزة الحديثة، وحجم التوتر الذي تخلقه هذه الألعاب الإلكترونية لهم، لذا قلّما ترى شاباً، في أوروبا أو أميركا من هذا الجيل الإلكتروني، سويّاً، إما يأكل أظافره حتى يدمي أصابعه، وإما نظرته شاردة لا تدري إلى أين، وإما يعضّ لبانته التي ذهب رحيقها الحلو، وإما لا يقدر أن يجلس على بِيصِه، وكأن مشاكل الدنيا على رأسه.
اليوم هذا المرض العصري وصل لبيوتنا، يصحو ابن الرابعة، وكأنه كان يحلم بنقّال أمه، وبنت الثالثة، قاموسها اللغوي لم يزد عن بابا وماما ثم «آيباد»، ولا أتطرق لأعمار ما فوق العاشرة، فهؤلاء يدخلون معارك مع أجهزتهم، ولا يخرجون منها دائماً منتصرين، مما يربي لديهم الغضب العارم، وحب الانتقام، والعنف اللفظي والجسدي، ومحاولة نقل ذلك الواقع الافتراضي إلى الواقع في حياتهم، فيخلق عندهم القلق المبكر.