من جذعهم تفرعت الأغصان، ونشرت الأوراق أعلامها الخضراء، ورصعت الثمار جوهرها الأصفر، وتلونت السماء ببياض الأجنحة، وهي تزخرف الفضاء بفرح وحبور.
هكذا هم كبار المواطنين، يسبكون ذهب الحياة على الأرض بعيون تلمع ببريق التطلعات، ويحيكون قميص الوجود بخيوط من حرير التطلعات وينقشون على الرمش إثمد التوهج، ويملؤون وجدان الجيل بعذب الحنان، لتستمر القافلة في الوصول إلى منابت الإبداع، ويحدث التداخل ما بين جيلين، لا ينفصلان مهما امتدت مستقيمات التاريخ ومهما توالت السنوات، وتداولت الأعمار مراحل التغير، فإن سمة الحب هي الترياق يحفظ الود، ويحمي وشوشة الأم من الضياع في زحمة الركاب، ويرعى نحنحة الأب ويجعلها نغمة التألق في فناءات الحياة.
هكذا هم في حياة الأجيال، وهكذا هم الجدول النازل من قمة جبل الزمان، هكذا هم يضعون اللحن والأبناء، يرفعون النشيد عالياً معتنين بسر الترنيمة، مهتمين بسطوة الحلم، رابضين عند الجذر مهما امتدت الشجرة وارتفعت أغصانها، وترعرعت في نهارات الفرح.
هكذا هم كبار المواطنين في الحياة مصباح يضيء دروباً، ويفصح عن تجارب تستفيد منها الأجيال، وتستنير بسفرها، هكذا هم كبار المواطنين في الوطن إكسير اللحمة وهم حصافة الأبجدية وقاموسها الوسيع، هم لحن الأغنية التاريخية هم صوت الموجة وهي تدغدغ لوح الأخشاب الطافية على صفحات الماء، هم ظل الجدران التي رعت واعتنت، وأغنت، وبذلت، ونسجت مخمل الدفء، وجدفت في العباب لتصطاد سمكة السعادة.
هم الذين كدحوا ليحيا الصغار من دون عوز، وهم الذين كبحوا الدمعة كي لا تجرح الوجنات، هم الذين ناولوا الثغور رغيف الشوق الوجودي، وهم الذين سكبوا من دلو النبوع ماء الأحلام الزاهية، هم الذين نسقوا سعفة الأواصر لتصير الإنسانية كأنها النخلة تقبل عصفور السعادة، هم الذين شقوا، وتعبوا وبذلوا، وسهروا، ولم تزل عيونهم تحدق عند أبواب الأفنية، ترقباً لوصول الفلذات، ومهما كبرت الطيور، وبرعت الأجنحة بالتحليق يبقى الكبار كباراً، والصغار صغاراً مهما كبروا.
كبار المواطنين في الزمان كتاب لا يقرأه إلا المخلصون والأوفياء، يبقون هم قيثارة الأيام تدندن في الأسماع، لتحيى الذاكرة، وتنمو وشائج القربى من دون نكران، ولا هجران، ولا سلوان.
كبار المواطنين هم البيرق لمن يفوز بالوفاء، والعرفان، هم التاج لمن لا تنسيه أيام الشباب، طفولة كانت تترعرع بين الأحضان وبراءة تغتسل من نهر الحب، وعفوية تتغذى من شهد العواطف النبيلة.
كبار المواطنين هم الذين وضعوا مصل المعرفة في وجدان كان بضّاً، حتى اشتد العود، وتماسكت الأغصان، وقويت الفروع وصارت الضلوع عوارض تحمي السقف من الوقوع.