في كل لقاء يجمعني بـ «أبو محمد» لا يخلو الكلام من العودة إلى الماضي، الذي جمعنا هواؤه ولسعتنا رمضاؤه وعززت هويتنا قيمه، ولا يخلو حديثنا من التطرق إلى مواضيع تغوص في خبايا الفنون والموسيقى والطرب، التي ترويها الأشعار والأغاني، والألحان والأهازيج والأناشيد والترانيم التي «تقصر الدوب». رحلة إبراهيم جمعة أكثر عراقة وعمقاً وأطول زمناً من علاقتي التحليلية للطرب والموسيقى. هو يصنع الموسيقى وأنا أحلل مزاج صانعها ووقعها على المحبين، والذين يشاركون بتحريك أجسادهم للتعبير عن تأثيرها وتأثرهم بها. مؤلفات فناننا القدير إبراهيم جمعة تدخل في زوايا النفس كما يدخل القمر في منازله الثمانية والعشرين، وتهز عرش الروح نغمات البحر التي نسمعها في مؤلفاته. ذات مرة أرسل لي مقطوعة وما إن سمعتها حتى تفجرت في عيني دموعٌ جهلت مصدرها، فقد كانت كالشلال المتدفق بالحنين والأمل، وأشياء أخرى لا أعرفها. اتصلت به وعبرت له عن تجربتي مع ما أرسله، فقال بكلماتٍ تواسي ولا توازي ما شعرت به: «هذا شيء بسيط يا أختي مِن ما يعيش فينا من معاناة الآباء والأجداد».
وكثرت المقطوعات التي يرسلها، كلما استمعت إليها جالت في الفكر أطياف الغواصين والسيوب والبحارة، وهم يمارسون مهنهم التي بها الرزق وترتبط بها الحياة. لقد رفَهَت نهمات الغوص عن هؤلاء قليلاً، ولكنها اليوم تحيا بيننا وفي مسامعنا بصيغة أخرى. نحن نجلس في غرف بها تكييف مركزي نتحكم في قوته ودفع مراوحه وتقليلها عن بُعد، وأجواء الرفاهية هذه تتيح لنا الاسترخاء فتصبح موسيقى الماضي وكأنها «هاتفٌ من الأندلس».
في ملتقى الشارقة الدولي للراوي كُرِمَ إبراهيم جمعة كشخصيّة فخريّة للملتقى، وسرد بتفاصيل المُحِب تلك الرحلة التي تخطت مراحل في حياته، ما جعله معطاء ومبدعاً وتلقائياً في تأليفه للجمل الموسيقية النابعة من معاناة البحر والحياة على سواحله، وإلمامه بتكوينات التراث الأصيل مثل العيّالة والحربيّة والموروث الفني الفلكلوري البحري، فهو الذي تحيا ألحانه النهمة والإيقاعات التي تميز موسيقى الإمارات عن سواها. ولأستاذنا إبراهيم خبرة كبيرة في تاريخ الطرب وفن الصوت الإماراتي الذي له جذور منذ عشرينيات القرن المنصرم.
للعارفين أقول، شخصية مثل شخصيته تستحق وبجدارة هذا التكريم، لاسيما وأنه كنز من الكنوز البشرية، التي حفظت الذاكرة الحية لوجود البحر في تفاصيل الحياة اليومية، وتأثير ذلك على أمزجتنا وأهوائنا، وخصوصية الإبداع الفني وبيئته النابضة بالتسامح والتعايش والتأقلم واحتواء الآخر. الفنان إبراهيم جمعة أيقونة الفن والطرب الإماراتي، ومثال حي على حب الوطن والوفاء له، والإبداع من أجل توثيق وتأصيل فنونه واستدامة الموروث بعمق العطاء. عشت يا أخي العزيز فخراً وذخراً وعزوة، وحاملاً أميناً للموروث الموسيقي والألحان، التي لا يحلو ليل المحبين أو نهارهم إلا بإشعاره وألحانه.