ـ لأن البعض يجالد الحياة منذ صباحها الباكر، وطوال نهارها المتسارع، ويتدارك في الليل ما فاته، فيذهب بكل أوجاعه إلى مخدة ستظل كمطرقة تدق على رأسه ما فاته لا ما أنجزه، يظل يستدعي هدءة نوم التي ستتأخر دون أي اعتذارات، وتؤخر عزيمته للنوم مبكراً.
- النساء لا يفضلن النوم مبكراً، ويكون الليل امتداداً لنهار رخو ظللن يجتررن أحاديث معادة، ومكررة، ولنفس الوجوه، وعلامات التعجب الكثيرة، وأسئلة يستطبن طرحها وجوابها حاضر قبلها، لكنه الشغف بالحديث المتثائب، وفرحة رؤية تجرد الناس، وإعلاء الذات، ولو كان على حساب ضياع لحظات من نوم مبكر فيه العافية والجمال، وفيه الأجر والخير الكثير.
ـ الأطفال عادة ما يذهبون للنوم مبكراً في المجتمعات المتقدمة، وحدها مجتمعات تثقل عليهم بغية تعليم وتربية مرتبكة، فيأكل الجميع من متعة صباحهم المبكر، ويثقلون نهارهم بحقائب ودروس متأخرة، ومحفوظات جوفاء، يعودون لبيوتهم عصراً، وقد أفل كل شيء، لا رياضة يستمتعون بها، ولا شغف الهواية والموهبة يجذبهم نحو ضوء التألق واكتشاف الذات، ولا أحاديث منزلية يمكن أن توسع آفاقهم في ظل تعب وإرهاق يحلّ على الجميع، فلا تبقى إلا الأوامر والإرشادات والتوجيهات، وكلها لا تجعل من أطفالنا يذهبون إلى مخدة الأحلام مبكراً.
ـ في مدن التسابق على الفرص، واقتناص الفرص، وعدم فرز المجتمع للفئات التي تقطنه، والقبول بالحد الأدنى في الحياة، وانتظار دائم لمطر مفاجئ من السماء، يسمونه الحظ، وجمايل الصدف أو يطلبون كنزاً مدفوناً في الرمال، كيف لتلك الرؤوس أن تفرح بذلك المكان البارد الذي يسمى فراشاً، وسريراً، ومخدة، ونافذة مطلة على أفق أزرق من الممكن أن تعطي للحياة لوناً ومجداً غير ملوث بالمادة، لكنه يصنع الفرق الذي لا يدركونه، ولا يحبونه، لأنه غير سائل بين أصابعهم، ولا له رائحة ورق الـ «بنكنوت».
ـ وحده طائر الليل، وعشاق الليل، ندماء الوقت، سلاطين البحر والريح لا يهمهم إن كانت نومة المساء مبكرة أو متأخرة، لأنهم يسيرون خلف ظلال فرحهم، وما يمكن أن يجعل من مسائهم ملوناً بالحلم والغناء وموسيقى تشبه بحة الصدر الصادق، مثل عزف «ساكسافون» مثلاً في ليل مبتلة أوراقه بالمطر والحب، ومتع الحياة، وعافيتها، وما يمكن أن تخبئ لهم ظلمة الليل من عطر وسحر وضوع امرأة تسبح وحدها في مخيالهم الذي لا يودون أن يجعلوه يذهب مبكراً نحو التقاعد السريري اليومي، لأن الليل يفرحهم، والنهار يرهقهم.