كنا نمتطي «يريد» النخل ونصنع من أنفسنا فرساناً، ومن أهم تلك الحوارات أننا كنا نسأل الفارس الذي يقابلنا، وفي يدنا «يريدة مسحوتة» أصغر من تلك التي نركبها: «مَن أنت مِن الفرسان؟» فيقول: «أنا عنتر بن شداد!»، وكان ردي عليهم بعد انتحالهم شخصية عنترة: «ماسمعنا عنك»، فيسألني الفارس بلهجة إماراتية خالصة: «عويش.. منوه تتحرين عمرك يعني؟»، فيبدأ النزال.. وغالباً كنت المنتصرة؛ لأني لا أتوقف عن الضرابة، ولا أيأس، وأكره الهزيمة والمُعاير الذي يذكرها في الأيام التي تلي ذلك. كان اللعب مختلطاً، ولم يفرق أو يفند أو يعزل أو يغرب أحد منا.. كل ماهو متوفر للعب نلعب به صبياناً وبنات.
عندما كنا نحيي الصور، ونخيط لها «كنادير» كَمنَت مهاراتنا في تدخيل الخيط في الإبرة والخياطة في خط مستقيم، وكانوا يقولون لنا: «إن كنت خياطا بصيرا عليك بالخيط القصير»، ويوم نتضارب كل واحدة تقول للثانية: «منوه تتحرين عمرك.. الملكة إليزابت؟!» فترد عليها الفتاة الأخرى: «عندكم منظرة في بيتكم.. يمكن نسيتي تشوفين ويهك فيها يالعبرة يالخسفة ياللي ماتتشاهدين!»، أكاد أجزم أن هذا الحوار كان مقرراً علينا حفظه لضمان البقاء صامدين في سكيك الشندغة، فهو يدور في جميع النزاعات بصرف النظر عن الأطراف المتناحرة، أو الأسباب التي أدت إلى تلك الضرابة، وإن كانت مقصودة وكيدية، أو كانت ضمن المناوشات التدريبية للبنات المستجدات في صراع البقاء.
وبمناسبة رحيل الملكة إليزابيث، أذكر أنني في إحدى سفراتي للمملكة المتحدة، وكان حينها السفر شيئاً جديداً، ركبت سيارة الأجرة التي أضحكني جلوسي بها بعكس اتجاه سير المركبة. أعطيت السائق بطاقة بها اسم الفندق وعنوانه، وقلت له: «سيدي، هل بإمكانك أن تأخذني إلى هذا المكان؟»، عندها سألني: «الفندق في نايتسبردج، أليس كذلك؟» فقلت له: «لا سيدي، بل هو قصر بكنجهام!»، نظر إلي بابتسامة عريضة، وقال: «عليّ أن أعاملك معاملة الملكات والأميرات طالما ستسكنين مع صاحبة الجلالة؟»، وانطلق بي إلى الفندق ذي النجمتين، وما إن وصلنا حتى قال لي: «تفضلي ياكونتيسة.. ها قد وصلنا».
للعارفين أقول: كل هذه الذكريات لفظها بحر الذاكرة في لحظة سماعي عن رحيل الملكة إليزابيث، حتى إنني تذكرت قصتي مع سائق سيارة الأجرة، وكيف بحثت عن كلمة كونتيسة، وذهبت لمشاهدة فيلم«الكونتيسة الحافية» لمؤلفه ومنتجه ومخرجه جوزيف مانكيفيتس للتعرف على المصطلح أكثر. لقد كانت الملكة جزءاً لا يتجزأ من مفردات طفولتنا، رغم «بُعد الثريا عن بنات نعش» جغرافياً. كانت الملكة سيدة من الطراز الأول، وذات مبدأ وقيم عالية، فقد عملت على خدمة بلادها منذ كانت في عز شبابها حتى ودعت العالم والعرش. وهذا دليل قاطع على أن الوفاء والإخلاص والعمل الجاد تصنع من المرء أيقونة للزمان، وطفرة للتاريخ.