آهٍ يا المسافر.. جرّني لعلي أفكك حيرتي وينسابُ من روحي ضمورها. وشدّني فلربما تُدرك الأرض أن انتمائي كان دوماً للرحيل. عشتُ مثقلاً بالمفاتيح أجرجرها طارقاً بها باباً بعد بابٍ، وما نلتُ اكتشافي بعدُ، ولا عانقت عيني مشهد الدهشة العظمى، ولا سمعت أذناي صفير الزمهرير البعيد. وكأنما الوحدة وليدة الوحشة والصمت مربّيها والفراغُ مسكنُ قلبها ولبّها. وكأنما السفرُ جرح المسافة الذي لا يُشفى إلا إذا داويناهُ بالنأي. خطوة واحدة فقط، وبعدها يصبح الزمانُ مقهى الانفتاح على المجهول. قفزة واحدة فقط، وبعدها ستدرك أن الأجنحة يمكن أن تنبت في جسدك، وأنك قد تنال لذّة الطيران خفيفاً شفيفاً متخلصاً من أحمال التردد والانتظار والتحديق في هوّة التيه.
لا بأس، قد تجرفك الأنهار وترميك في الدوامة التي اسمها لغز الحياة. وقد تطاردك الوحوش وتلتهم طمأنينتك الواهية. لا يهم ذلك، لأن انفلاتك في المتاهة هو شرط التحرر منها. تقدّم قليلاً وجرّب أن ترفس الريح في خصرها كي توقظ الأشرعة النائمة. أو خذ حجراً وهشّم به زجاج نافذة انتظارك للقطارات المتوقفة. كن صانعاً للزمن بأن تبني كوخك فوق غيمة تشتاق أن تلامسها الجبال. وكن هادماً لفكرة أن الليل والنهار هما مجرد قطعتين على رقعة الشطرنج. لا، هناك بينهما الفاصل الذي اسمه أنت. أنت الذي إذا مشيت صرت الزمن والمكان والوعي، لا شيء يحدث خارج انتباهك، ولا شيء سيحدث إن توقفت أو عدت إلى الوراء. أنت يا ذيل المسافر وظله وتوق عينيه ومولد معانيه.
يسكن المنسيّون في الشبر، يتكاثرون في العتمة الخانقة وفيها يقضمون فاكهة العدم. وأنت أيها المسافر، تسكن في الرحابة ممتداً في فسيح اللا نهاية، وكأن الوجود كله سردٌ لأثر مرورك فيه. ونحن، إن تبعنا صوتك، إنما نخرجُ من شرنقات ظنناها أماننا. وإن دسنا على أرواق الذكريات التي تتساقط منك، تصير كلماتنا أنّات قلوبٍ تتفتح، وترى وتشعر لأول مرةٍ، روعة الحياة. ذلك لأننا نقدّسُ فكرة الذهاب إلى الضفاف البكر، ويُطربنا السقوطُ في حضن الأمل، ولو قيل لنا: أين تغتسل الروح. لأشرنا إليك وأنت تعبر ضوءاً في الأحلام وتنفّساً في اليقظة.
الدروب المفتوحة شهوة للعقل. الصفحات البيضاء مصيدة المعنى. وسجنك الحقيقي عندما تقّيد ذاتك بفكرة أن الغد سيأتي، ناسياً أن اللحظة الآن هي الزمن كله، وأن السفر نحو المطلق الأبدي، يعني امتلاكك للوجود كله.