قال لي الفيلسوف: في الروتين قبرك الحقيقي، لا في الأرض التي تُدفن فيها. ثم جرّني من ثيابي وأراني كيف يكدحُ المساكين في الدائرة المغلقة طيلة عمرهم، جيئة وذهاباً في المكان نفسه وعلى الوتيرة نفسها وكأنهم أموات حقاً. إذ لا جديد يُذكر سوى مرور سحابة الزمن على رؤوسهم من غير أن يشعروا بروعة الحياة، ومن غير أن يضيف أي منهم ملمحاً أو يحدث تغييراً. وهؤلاء هم الكثرة الكاثرة التي تخاف أن تمد رجلها خارج القفص خشية أن يختل توازنها الوهمي، وهؤلاء هم سكّان الزاوية الواحدة، الذين لا يرون من الوجود سوى الشبر الذي أمامهم. يعلكون الوقت ويجترّون الفراغ حتى يصبحوا ندماء الندم.
ثم جرّني الفيلسوف من أصابعي وكشف لي عن الشعراء الذين يكتبون القصيدة نفسها بتكرار فجّ من غير أن يجنح خيالهم إلى هدم الرتابة أو إحداث الفرق. وكشف لي عن الفنانين الذين لا تتعدى لوحاتهم فكرة النقل من الطبيعة ورسم الانعكاسات ليس إلا، بينما الفن الحقيقي هو إحداث شرخ في بنيان اللوحة وجعلها تنطق بلسانٍ بصري جديد. وكشف لي عن المداومين على لعب الدور نفسه في مسرحية الحياة الرتيبة، والجالسين على مقهى الضياع، والمنتظرين قطار الأمل في المحطة التي لا يعبر فيها إلا السراب.
تعالى معي، ناداني الفيلسوف. حيث صعدنا جبلاً يطل على المدينة كلها. ثم أشار بعصاه إلى فتاة تطاردُ فراشة أسفل الوادي وقال: من هنا تبدأ المغامرة، من مطاردة الحلم وعدم انتظاره، من الذهاب بعيداً لاكتشاف ماذا يُوجد وراء التلال والغابات والأنهار. انظر إلى الرجال الذين غيروا التاريخ، تجد أنهم هدموا فكرة الروتين وحطموا أصنامها. استمع إلى قصص النساء العظيمات اللواتي غيرن مجرى الزمن لأنهن اخترن الحياة الصعبة على حياة الرغد، حياة التحدي والمواجهة، بينما البقية لذّ لهم ولهن الركون إلى الوداعة والاستسلام إلى خدر الراحة والابتعاد عن الكُلفة والتعب. وقبل أن يكمل كلامه، مرّ نسرٌ وحطّ على شجرة فابتسم الفيلسوف وقال: ها هو النسر يهبط للأرض كل يوم، لكن مسار تحليقه يتغير كل ساعة، لقد كان بالأمس على الصخرة، وغداً سيكون متحدياً علو الغيمة.
كانت الشمس قد بدأت بالمغيب حين هبطنا من الجبل. كتب شيئاً في ورقة وتركها في يدي وغادر. وعندما فتحتها في المساء رأيت الجملة التالية: اخرج من قبر الروتين واذهب إلى الحرية حتى لو كان فيها هلاكك.