لولا الركض في الأسفار، والتؤدة في الحِلّ والمقام، بغية تخزين شيءٍ للمقبل من الأيام، نهرول في المسافات، نتأمل الأمكنة والناس نطلب شيئاً يبقى لنا للذكرى والذاكرة، ندفع الكثير لنتعلم من الحياة، نصادق الغرباء ولو دفعنا ثمن تلك العلاقات، لا نرتضي بالمكوث وقبول حالة الثابت، دائماً من يريد الجديد والمتجدد يغامر صوب المتحول، هكذا حال من يريد أن يفهم الحياة ويعيشها كما يشتهي، لا كما يشتهي الآخرون، وهكذا حال من لا يريد أن يذهب وحيداً بائساً آخر العمر بلا ذكريات تقال وتعاد، مؤنسة الوحدة، عكازة العمر وثقل الخطوات، مخدة الأحلام المستعادة، مبعث الضحك والدمع اللذين يكفان ويجفان حين تقف وحدك مع الحكمة والرشد ومحاولة فك طلاسم الحياة والعمر، حتى تتساوى عندك الأمور، وتغدو كطفل لا يتعرف على سقف، ولا تحده حدود، لقد أصبحت الحياة جليّة أو هي بسيطة مثل شربة ماء.
الذكريات تبقى المحرض على المقاومة، وعدم الاستسلام بسهولة، وببطء، يبقى ذلك الشيء الذي اجتهد الإنسان على صنعه وتكوينه، ليكون سنده ومسنده حين تتحرك رحى الثوابت الثقال، وتختل الموازين والقيم بحكم دوران الحياة وتعاقب الأجيال، يبقى ذلك الشيء الذي ظل يربيه ويكبره، يزيده، لأنه زوادته حين يهرب الجميع، ولا يكون أمام الإنسان إلا ذلك الخزين الذي تعب عليه، والآن يفرحه، ويستنطقه، ولا يجعله مثل الآخرين يمضغ «لبانة الملائكة» في ضجر وأسف، لأنهم لم يُقَدّروا معنى أن يخزن الإنسان ذكريات وذاكرة للناس والأمكنة وتجارب الحياة وتحديات النفس أمام النفس وأمام الآخرين، حتى العداوات الصغيرة والطائشة والتي دفع ثمنها، وأحياناً دفعه باهظاً، تصبح من الذكريات التي يتسلى بها المرء في خريف العمر.
وحدهم الذين فاتهم الأمر، ولم يفطنوا لقيمة بعض الأشياء في مختلف أطوار العمر، يدقون الأرض الآن أسفاً وحسرة، لأنهم لا يستطيعون شراء الذكريات بعد ما توقف قطار الإنسان في محطته الأخيرة، لا شيء واضح غير صمت الجدران، وعقارب الساعة التي تسير ببطء يقتل الصبر، وذلك الرأس الفارغ من قصص وحكايات وتجارب، وعوالم ما تزال تتراقص فيه بكل ضجيجها وصخبها، لا شيء في تلك الفراغات الخالية من أي ذكرى صديق أو عطر امرأة أو مكان يخبئ الدفء، وحدهم الآن خالين من ذكريات، يتصارعون مع ظلالهم الهاربة، لا يتبعهم شبح من عداوات العمر الفارط، ولا تتعبهم أوجاع نساء نائمات في ثنايا الذاكرة، ولا ترهقهم أخطاء العمل والتجارب ومحاولة مسك الأشياء ورجّها حين كانت الأمور بحاجة لهبوب عاصفة أو حين كانت الأمكنة بحاجة لزعزعة، ولو كانت بهدم المعبد على الرؤوس انتصاراً للمبدأ، وانحيازاً للصدق والوعد، وتعففاً أن لا تتنجس بأن يصاب الإنسان بظلم، وأن يشار لك بإصبع، إصبع كنت تتمناها أن تذكر الله أو تقطع!