عندما قال أهالينا إن «الغوص بو سبعة أرزاق» لم يفسروا لنا معنى ذلك بأن أجلسونا ليشرحوا لنا ماهي تلك الأرزاق، ولكنهم كانوا عندما يرونا في حالة ملل يقولون لنا: «أكوه عندكم البحر.. بلاكم ماتسيرون تلعبون على البحر ويا الصغارية»، وما أن نتبع تلك النصيحة حتى وجدنا الخور والبحر الممتد يرحبان بنا فننسى ما سبق. بالنسبة لي كان البحر من أقرب جيراننا، نعرف أسماكه وقشرياته ومسمياتها من صغارها وكبارها، وحتى تلك التي تزوره في مواسمها والنادرة منها، ونُميز البلح من الحبل، ونعرف أين تختبئ المدادة، وكيف يُسَفَطُ ويقطع، وكيف لا يكون للسمك طعم إن لم نقض وقتاً كافياً مع ما تبقى من عظامه عند الغداء.
جارنا العزيز يضع الغذاء على سرودنا كل يوم، لا يتذمر من عطائه هذا، وهو معلم لايكل ولايمل. تعلمت من البحر أن رياحه تراقص أمواجه، التي تتعارك مع الأشرعة تارة ومع قلوب ومشاعر العاشقين تارة أخرى، فمن كان ينتظر محبيه يكتب الأشعار، التي تصف السفن والرياح والاتجاهات، وبعض هذه الأشعار تعتبر عن معرفة وخبرة مزجها البحر بعواطفهم فوثقت الأحاسيس والتضاريس على حدٍ سواء.
عندما تعلمت الغوص كانت شجاعتي لفعل ذلك مستمدة من طموحي لمعرفة البحر، وكنوز المعرفة اللامتناهية والتي لا أعرف عنها شيئاً حينها، فقط أدركت أن ما نراه على السطح يختلف تماماً عن ما نجده في الأعماق، فقد يكون البحر هائجاً ومستحيلاً عندما نراه من السفينة، ولكنه هادئ ومستسلم لما يجده من أجسام تسقط في أعماقه. واستوقفني فضولي لمعرفة «لماذا يلفظ هذا البحر الكبير بعض الأجسام فتلوث على الشاطئ؟ أليس في حجمه الكبير ومحيطاته الهادئة وغيرها فجوة تقبل تلك الأجسام؟ وكنت دائماً أتساءل عن الذين يموتون في البحر ويدفنون فيه، هل يحدث لهم ذلك؟
أستعنت بلسان العرب لأعرف لماذا ارتبطت كلمة»لفظ«بالبحر، يقول ابن منظور اللفظ هو أن ترمي بشيء كان فِيكَ. فقلت في خاطري نحن نقول عن ذلك»فَلَحْ«ولكن لماذا نستخدم كلمة»لفظ«مع وجود كلمة أخرى تؤدي نفس الغرض؟ فأضاف ابن منظور إلى شرحه: عندما نقول لفظت الشيء من فمي فالقصد أني رميته. مثال ذلك أن الدنيا لافظة فهي تلفظ بمن فيها إلى الآخرة أي ترمي بهم. والأرض تلفظ الميت إذا لم تقبله ورمت به و»الْبَحْرُ يَلْفِظُ الشَّيْءَ: يَرْمِي بِهِ إِلَى السَّاحِلِ، وَالْبَحْرُ يَلْفِظُ بِمَا فِي جَوْفِهِ إِلَى الشُّطُوط. «وعندما بحثت عن كلمة»فلح«لمعرفة أوجه القرابة بينها وبين كلمة»لفظ» تبينت لي إيجابياتها وتعدد صورها وجمال وقوة اللغة العربية.
للعارفين أقول، سأظل جارة البحر ماحييت، فقد رزقني بعض العلم والمعرفة، وعرفت جمال بلادي ومصطلحات عميقة في اللغة العربية تعبر عن أصالة الموروث وجذوره الممتدة في أعماق الهوية الوطنية. سأظل بالقرب من البحر حتى وإن اخترب الكنديشن من الرطوبة وذابت سيارتي من الحلا.