ليس أجمل من مدينة يكون مركزها، وقطب رحاها مكتبة عامة، وليس أجمل من مكتبة في وسط مدينة، مثل جدة وقورة، تحرس أبناءها وأحفادها، تخبئ لهم أسرارهم وأسرارها، تتفاخر اليوم كثير من المدن أن لها شرف تتويجها بالمكتبة الوطنية حتى تغدو «أيقونتها»، وقد تحقق لعاصمتنا مؤخراً ذلك الحلم الذي كان يراودنا منذ سنوات طوال، كنا نجهر بالقول ومرات نسرّه لكي نصحوا، ونرى مثل تلك الجدة التي تحرس المدينة وتحرسنا، وقد سبقتنا قبل أعوام عدة، ولا أدري كيف هي الآن، مكتبة على شاطئ أبوظبي، تعد المكتبة الشاطئية الثانية على مستوى العالم بعد مكتبة «موناكو» الشاطئية، وبعد تلك المكتبة الغرائبية في لندن، والتي لم تكلف بريطانيا غير مائة ألف جنية، حينما حوّلت سفينة مكهنة على نهر التيمز لمكتبة تحتوي على أكثر من عشرة الآف كتاب للأطفال، وكثير من الألعاب، وسميت بـ «مركب الكتب»، وسمي الطريق إليها «طريق النور».
وكان لدى أبوظبي منذ سنوات مكتبة متنقلة عابرة للحدود العربية من أقصى الماء إلى أقصاه، كانت من الخطوات النيّرة، ذات السمة الحضارية للعاصمة أبوظبي في مساعيها الجديد نحو المعارف والفنون ودور الثقافة، فلطالما بنت المكتبات أناساً أصبحوا مؤثرين في حركة الحضارة الإنسانية، ودفعها نحو الرقي بالإنسان، وبقيمه ومكتسباته، وطالما شكلّ الطريق للمكتبة، متعة التقصي عن الأسئلة، وجلب الدهشة، ولذة امتلاك المعرفة، ولا تكاد تخلو عاصمة أو مدينة كبيرة في العالم من مكتبتها العامة، والتي تعد من الكنوز الوطنية، شأنها في ذلك شأن المتاحف، والنصب التذكارية لتاريخ وشخصيات الوطن ورموزه العظماء، واليوم مثلما تفاخر باريس ببرج إيفل أو متحف اللوفر، تفاخر أيضاً بمكتبتها الوطنية، والأمر نفسه في مدن كثيرة في العالم.
والزائر للمدن الكثيرة سيجد مكتبات من الغرابة والدهشة والفرادة بحيث لا تقدر إلا أن تقف أمامها أو تدخل مبانيها أو تتصور بين أروقتها، مثل مكتبة في مدينة «باتو جاوه» الأندونيسية، بناها الأهالي من إعادة تدوير حاويات الشحن القديمة، وتحويلها بعد دهنها، وإعادة طلائها بألوان مفرحة إلى أركان وزوايا مكتبة حديثة، تضم الكتب، والمراجع الإلكترونية، وما يهم الطفل أيضاً، وهناك مكتبة في «كنساس ميسوري» بأمريكا، أختار الأهالي أكثر الكتب تأثيراً ومبيعاً، وجعلوها واجهة للمكتبة، بدلاً من واجهة المرآب الكبير البشعة، وأصبح المرآب مبنى لمكتبة مصمم على هيئة كتب، وغدا الأهالي يغذونها بالكتب المستغني عنها أو المقروءة، ليستفيد منها الآخرون، وهناك مكتبات «بشرية» في النرويج وبعض البلدان، الكتب فيها أناس يعطونك المعلومة، ويجيبون على أسئلتك المتعلقة بشيء من المعارف، وهناك مكتبة «شكسبير» القديمة في باريس، يمكنك أن تسكن في مبناها، والأجرة أن تقرأ كتاباً، بينما تظل المكتبات العظمى في العالم مثل مكتبة الكونغرس في واشنطن، والمكتبة الوطنية الصينية، ومكتبة امستردام الحداثية، وهناك ومكتبتان عربيتان يحق لنا أن نفخر بهما، مكتبة الإسكندرية، ومكتبة طنجة، وغيرها من المكتبات في العالم، هي المرجع لكل حضارة الإنسان، ويحضرني فيلم جميل من الخيال العلمي لـ «دينزل واشنطن» اسمه «كتاب إيلي The Book of Eli» قدر بفضل المحافظة وحراسة ذلك الكتاب الأخير الذي تبقى من الحطام الحضاري، والحرب المدمرة أن تنهض بفضله حضارة الإنسان من جديد!