كأنك على موعد مع لقاء حميم، كأنك تتزحلق في السديم، كأنك ذاهب إلى لغة خرافية لم تخطر على بال عالم أو كليم.
في الصباح أيقظتك رفة قلب، كأنها جناح الطير عند نافذة غرفة نومك، فصحوت، نهضت، فركت جفنيك، وفرقعت يديك، قمت غادرت السرير وفي نفسك بهجة، والصباح يجهجه في محياك، كأنه الأبجدية في ثنايا الكلمات، كأنه السر في غضون الأحلام البهية. عند البوابة الزجاجية صافحتك لفحة باردة، حيث للبرودة لذة ساعة مجيئك من خارج صناديق الحضارة المترفة.
دخلت معرض أبوظبي الدولي للكتاب كأنك الوعد المتسرب، دخلت في البهو الوسيع وكان الحشد يلبط في المكان مثل أسماك الزينة في زجاجة المعرض الوثيرة، توغلت وأنت في هيام مع المشهد الزاهر، أنت في غرام مع باقات الكتب المنثورة في معرض الكتاب كأنها النجوم في ليلة شهباء، كأنها الثريات في قصر عامر بالأبهة، سلمت على الكثيرين، وتسلمت إشارات التحية المبهجة، وقفت عند أحد الأجنحة دون أن يستقر نظرك على كتاب ما لأن المبثوث مدهش إلى حد الإغماءة، طفت في الكواليس، درت بين الجادات المبهرة حتى وصلت عند جناح دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي، هناك أخذت نفساً، ورميت نفسك على كرسي جلدي، بلون الفرح، تأملت المشهد عن قرب، تفحصت الوجوه، وقرأت الملامح، ربما بعضها لا تعرفه، والبعض قد خابت ذاكرتك في التعرف عليه، وبعض منهم رميت نفسك على رأسه وقبلت تلك القامة، ثم تمحصت في الوجه، لقد تغيرت أشياء، وأشياء توارت، ولكن الوجوه السمحة تمنحك هويتها من دون استئذان، بعد ابتسامة مثل السحابة، ومع مضي الوقت تصبح أنت في المكان مثل دوامة في خاصرة محيط، تدور هنا، وتتوقف هناك، وتبحث عن صديق في مكان آخر ربما يكون الكتاب قد جذبه، ثم تتذكر كتاباً ما وتظل تبحث عن مكانه، تظل تحوم حول المنتجات المذهلة، حتى يستوقفك شخص ما لا تعرفه ولكنه يصر على معرفتك، فتبتهج لهذا السبب، فأن يسعى إنسان ما في تعريف نفسه بك ويقبض على يديك لئلا تفلت منه، فهذا مكسب تاريخي في زمن تهرب فيه الأشياء عنوة كي لا يمسك بها الزمن ويعرقل هروبها من الذاكرة.
تمليت وجهه، غرست عيناي في الملامح، فلم يكن الرجل ذاك الشخص الذي يمكن أن يكون قريباً أو صديقاً ولكنه أصر على معرفة سابقة، وظل يسرد مواقف وأحداثاً كنا قد اشتركنا فيها معاً في وقت من الأوقات. بعد مضي وقت ليس بالقليل قفزت إلى ذهني صورة الرجل وهو شاب، حيث كنا زملاء دراسة في الثانوية.
عدت بالذاكرة وتقصيت تفاصيل تلك المرحلة بعمق، وصارت الصور تتدفق مثل الشلال أمامي. هكذا كان المعرض خير رواق تبتهل فيه النفوس وهي تجول بين أزاهير الكتب، ووجوه قد تكون تلاشت من الذاكرة، بفعل تقادم الغياب.