كلما غاب شاعر من العراق انثنى غصن نخلة فيه، كلما رحل مبدع كان يعشق بغداد، جفلت طيور النهر، وتلكأ في سيره الأبدي، لأن صديقاً ترجل، وكان يحبه مثل جد عظيم، كلما احتضنت المنافي رفات عراقي نبيل، تباكى الشرفاء على الوقت، وناحوا في مشهدية الرماد، وظلال المجد المنقضي، حين كان يجبر العثرات فارس عربي ينتخي سيفه، ويهمز فرسه، ويقول: دون الكرامة والرفعة والشرف والأوطان خرْط القتاد!
طوال الحياة وأيامها ارتبطت بعلاقات صداقة ومعرفة بمعظم شعراء العراق الكبار، خاصة حين تناهت بهم السبل والمدن، وغابوا في منافيهم الاختيارية - الإجبارية، كانوا يمثلون حال العراق وما آلت إليه الأمور فيه، وما أصابه من تقلبات ونكبات، كان كل واحد منهم مثل عزيز قوم ذل، تستشعره ولا يكاد أن يبين، فلا العراق يستحق، ولا هم يستحقون، كانت لقاءاتي بهم خارج ذلك السواد، خارج بغداد، خارج بصرة الخير أم البساتين، عرفت محمد مهدي الجواهري في دمشق والشارقة وأبوظبي، وزرته على سرير مرض شيخوخته الأخير، عرفت عبدالوهاب البياتي في الأردن وبيروت، وعرفت سعدي يوسف في فرنسا والقاهرة ودبي، وعرفت نازك الملائكة بالمراسلات ووسطاء من الأصدقاء حين كانت بحاجة إلى دواء، ولا أحد أو وطن يسأل، كانت مراسلات الدواء والتعافي عبر باريس والقاهرة وبغداد، عرفت محمد سعيد الصكار في مدن كثيرة، لكن ليس مثل باريس وأبوظبي، وعرفت «لميعة عباس عمارة» تلك الشاعرة الجامحة والمتوقدة والمتوثبة، والتي توفيت قبل عام عن عمر 93 عاماً، هي التي غادرت العراق في نهاية السبعينيات، واستقرت في ولاية كاليفورنيا هرباً نحو الحرية والتنفس بعيداً عن هيمنة الحزب الواحد، وقمع الرئيس الأوحد، بعيداً عن التعريفات الطائفية البغيضة، وهي التي تنتمي لفئة أصلية ولكنها أقلية من الصابئة المندنائية، لكن وجهتها كانت الشعر والحب والحرية والكرامة للوطن، وقد جمعتني بها لقاءات في الإمارات وعواصم عربية، وعرفت مظفر النواب في لندن والإمارات، كان اللقاء الأول في أبوظبي، وعلى كورنيشها قبل عشرين عاماً أو أقل قليلاً، يومها كان لقاء صحفياً بعيداً عن هيبة هجاء مظفر، ومحاولة تقريب صورته الملونة للناس، بعد صورته بالأبيض والأسود التي عرفوها، وعرفوا أبياته في البكاء والسوداوية وندب النفس بلغة حاول أن يرقى بها من حالها ووضعيتها الساقطة على الأرصفة إلى لغة الشعر، فما أمكن، وبقيت برمتها الموسيقية وللشارع مكانها الذي تنتمي إليه، قدمته للقراء العرب بلقاء صحفي أردت منه المصالحة بينه وبين المدن العربية، وقد عرفت غيرهم. كثيرون كانوا من شعراء وأدباء وفنانين. ولكم كان يحزنني حين أسمع بين الحين والحين تساقطهم في منافيهم، بعيداً عن وطنهم الذي يعرفون، قريبين من المدن التي احتضنت تعبهم، وحنّت عليهم كأناس لا يستحقون إلا الشيء الجميل، مثلهم مثل وطنهم أرض الخير الوفير، والدماء المُراقة التي لا تنتهي، والعذابات السود التي تزداد وتتشكل مع العصور وطغاة التاريخ، وحين ينخر الفساد ضلوع الأوطان.
لقد ودعناهم في سنوات متقاربة، وفي مناف متباعدة، دون أن تكتحل عيونهم التي سكنها رمد الغربة برؤية بغداد التي يعشقون، والعراق الذي يهوون، وكان آخر المودعين بالأمس «مظفر النواب» الذي شكى للشارقة، وبكى العراق حتى الرمد «يا ريل طلعوا دغش والعشك جَذّابي»، كانت في نفسه غصة أن ذلك «الريل» لم يوصل حمد إلى طمي قريته، ولا ثرى وطنه، ولا ذلك الحب الذي نثره ونذره للأثير!