عزيزة رحلات الماء.. تلك التي تكون على وجه عذب فرات أو على ملح أُجاج، وجميلة تكون حين تقترن بسردياته وحكاياته التي لا تنتهي، لعلها من الرحلات التي لا تنسى في حياة المسافر، عاشق تعب نهار المسافات، ومسك ليالي الوجد، تلك الرحلة المائية التي شقت وجهتها نحو حواف جزر الفلبين الساحرة، والغافية تحت ظلال الغمام، الساجدة لشمسها في شروقها وغروبها في تناغم جميل بين الطبيعة حين تتسيد، وتعلن حضورها على المكان، يومها كانت تلك الأمكنة شبه بدائية بكل تفاصيلها، وطقوسها، وترحابها بالغرباء الذين ما جاءوا إلا ليرسلوا حبهم، ويغنموا وقتهم، ويقولوا للأشياء الجميلة: أنت جميلة، وفقط!
يومها قبل سنوات ليست بالطوال، كانت كل الأمور عادية نحو سبحانيتها، وأناس تلك الجزر وحوافها التي تشبه صفاء اللآزورد، لم يعرفوا معنى السلاح المدفوع ثمنه، وثمن جريرته التي تودي بالأبرياء، وتغتال لحظات فرحهم، كانوا مثل فلاحين نبلاء، لا عشق لهم إلا الأرض، والخير الذي فيها.
كانت صفحة وجه ذلك النهر الذي استقبلنا ماؤه، بعد أن ودعّنا مالح البحر، وكأنها جزء من بساط الغابة الخضراء المبتلة، والتي إن استقبلت المطر فرحت، وأن غازلها النهر بطمي تعبه، وجريانه الذي يحاذي الأشجار، ولا يؤلمها، فرحت، وإن ترنح قارب يتبع موجه الدافع، وغنى من عليه بأغاني فيها شجن الوداع، وسجن الحزن، أعانه على سفره النهري، وعلى وجع صاحبه المجدف، وفرحت، فالنهر يخزّن حنيناً، وكأنه بمثابة خال للجميع، ليته يستطيع لو قدر أن يطرق كل الأبواب الصغيرة المطلّة عليه، ليودعها سر إشراقة صباحه أو هدوء إغماضة الغروب، ويمضي وحيداً سارداً حكايته المائية التي لا تنتهي.
في تلك الرحلة كانت زقزقات صبايا وطيور ترافق المركب الخشبي، ووجوه وأجساد نسائية جاءت لتسرق شيئاً من الشمس، ومن ضوء أشعتها، وشباب في أعمار يمكنهم أن يمروا على ثلاثة صحون، ويقولون: هل من مزيد! وشاب كان يعجب ببيوت البسطاء، ورزقهم البسيط الحلال التي تباركه السماء من بعيد، وتلك البساطة الآسرّة التي تمده بمتعة التأمل، وإعادة قراءة الأشياء.
كان اليوم بطوله لهواً، وضحكاً، ووقوفاً عند بيوت، كأنها كانت منسية لرزق النهر، وذلك المشاع منذ بداية حياة الإنسان الأول، نتوقف آكلين، شاربين، متبضعين لحاجات تقليدية كان يصنعها الأهالي ويختطفها السياح بدولارات لا يعرفونها، وودهم لو أنهم قايضوا بها بضائع ذات نفع لهم أو كانت ورقات «بيسو» من عملتهم المحلية يعرفون قيمتها على الأقل.
تهادى بِنَا المركب ثلاثة أيام، توقفنا عند شلالات متساقطة من بين أحجار، كأنها لجبل أو واد سحيق، قادتنا طرق الغابات الموحشة من سكونها إلى أشجار قديمة تشبه آلهة القبيلة، سرنا لبيوت أسر ما زالت صحونهم أوراق الشجر ومعالق الخشب، وتتردد بود نحو وجوه غريبة لا تشبهها، لكن البسمة كانت سفيرة القلوب، والمرشدون السياحيون نزعوا فتيل أي اشتعال حين تتعثر اللغة، ويظن بالآخر، وتصير الأمور باتجاه التوثب، ويتحول الإنسان المهادن لنمر غابٍ.