سواء كان ذلك باستاد الاتحاد، أو بقلعة الأنفيلد، فإن أي نزال بين المان سيتي وليفربول، هو دفق متوال لعطر لا ينقطع، هو انهمار لسحر كروي لا ينتهي، لأنه مع نهاية كل عرض كروي، تكون الخاتمة مقدمة لعرض أكبر على مسرح الإبهار، شيء من الوله الذي يصيب بالجنون.
ما شاهدناه يوم الأحد الأخير بمانشستر بعيون مسافرة لعوالم الدهشة والجمال، و«السماوي» يحاكي بأجمل صورة في سمائه الزرقاء أنجم «الريدز»، كان فاصلاً جديداً في ملحمة كروية لا تتوقف عن إسالة اللعاب، منذ أن اعتلى الفيلسوف بيب جوارديولا العارضة الفنية للمان سيتي، ومنذ أن قدم يورجن كلوب إلى ليفربول محملاً بالعشرات من الأفكار الثورية، ليصنع الزمن الباهر للحمر.
كانت المباراة حادة كالسيف، ساخنة كأحراش أفريقيا، وملتهبة كحمم بركانية، فلا أحد كان يقبل بالخسارة، لأنها بكل بساطة ستهدم صروح الأمل في الوصول للقب، فخسارة ليفربول كانت تعني أن حجم الفارق سيكبر، وخسارة المان سيتي تعني بكل بساطة التنازل عن الصدارة، وبرغم هذا التوجس الرهيب من الخروج من مولد المباراة بلا حمص، أبداً لم يلجأ أي من المدربين لصف المتاريس الدفاعية وحجب الشمس عن المنافس، وما كان لنا أن نتصور مباراة عليها أقفال دفاعية، ونحن في حضرة مدربين يعشقان الكرة المبتهجة التي تفيض بالسعادة، فمهما فعلاً معاً لدرء خطر المنافس فإن ذلك لن يكون بالتحجب وراء عشرات الأقنعة الدفاعية.
وللأمانة أعطتنا المباراة ما نسأل من متعة، في ظاهر النزال الشطرنجي بين داهيتين، وفي باطن العراك المشتعل بزلزلة الضربات الموجعة، لقد وضعنا أمام مدربين يجيدان التحرك على رقعة الشطرنج بمكر ودهاء، ويجيدان التنقل على حلبة الملاكمة، كالنحلة التي تطرح رحيقاً، ولكنها أيضاً تلسع فتحدث حريقاً، فالرجلان معاً ظلا حذرين من أن يتلقيا الضربة القاضية، وكلما أمسك جوارديولا بخيط يقوده لنقطة الضوء في سراديب المباراة، تفطن كلوب لذلك، فزحزح الصخرة الجاثمة على الجحر لكي تمرر النور الذي يحيي المنى لديه.
كان النزال الذي سينتهي متعادلاً عدلاً وإنصافاً، ليبقي ذات الكم الهائل من الإثارة، اصطداماً بين لاعبين بقلوب الأُسود، ومبارزة ولا أجمل بين مدربين يقتسمان ذات الشغف وذات الحب لكرة القدم، وذات الاحترام الذي هو صفة ملازمة للنبغاء. ولا عجب أن نجد جوارديولا يقول بعد المباراة: «متعة أن تشاهد ليفربول يلعب»، ليرد عليه كلوب قائلاً: «دائماً ما نتعلم أشياء من المان سيتي». أما نحن فنقول للعبقريين، «معكما لن تموت كرة القدم، لن تموت الأسطورة».
يوم السبت سيتجدد اللقاء مع الفيلسوفين بويمبلي مسرح الأساطير، في نصف نهائي الكأس، مع لحن جديد من سيمفونية الخلود.